شاور بن مجير الوزير المصري

شاور بن مجير الوزير المصري

بعد النسب المتقدم في الترجمة السابقة وزير العاضد صاحب مصر، ولي الوزارة له سنة ثمان وخمسين وخمسمائة في صفر منها، وكان ابتداء امره أنه كان يخدم الصالح بن رزيك، فأقبل عليه وولاه الصعيد وهو أكبر الأعمال بعد الوزارة، وظهرت منه كفاءة عظيمة وتقدم واستمال الرعية والمقدمين من العرب وغيرهم، فعسر أمره على الصالح ولم يمكنه عزله، فاستدام استعماله لئلا يخرج عن طاعته. ولما جرح الصالح وأشرف على الوفاة كان يعد لنفسه ثلاث غلطات إحداها تولية شاور. ولما حضر الصالح الموت كان من جملة وصيته للعادل رزيك ولده: أنك لا تغير على شاور فإنني أنا أقوى منك وقد ندمت على استعماله ولم يمكني عزله فلا تغيروا عليه فيكون لكم ما تكرهون. فلما توفي الصالح وتولى ابنه العادل الوزارة حسن له أهله عزل شاور واستعمال بعضهم مكانه وخوفوه منه أن اقره على عمله، فأرسل إليه بالعزل فجمع جموعاً كبيرة وقدم من الصعيد على واحات واخترق تلك البراري إلى أن قدم عند تروجة من الاسكندرية وتوجه إلى القاهرة، فهرب منه العادل بن ريك فأخذ وقتل. وكانت مدة وزارته وزارة أبيه تسع سنين وشهراً واحداً وأياماً.

وصار شاور وزيرا تلقب بأمير الجيوش، وكان ذا شهامة ونجابة وفروسية. ثم أن الضرغام جمع جموعاً كبيرة ونازع شاور في الوزارة، وفي شهر رمضان ظهر أمره وانهزم شاور منه إلى الشام وصار ضرغام وراءه. فلما تمكن ضرغام من الوزارة، قتل كثيراً من الامراء المصريين لتخلو له البلاد من منازع. ثم ان شاور لما نازعه ضرغام في الوزارة قصد نور الدين محمود بن زنكي ملتجئاً إليه مستجيراً به، فأكرم مثواه وأحسن إليه وانعم عليه، وطلب منه إرسال العساكر معه إلى مصر ليعود إلى منصبه، ويكون لنور الدين ثلث خراج مصر بعد اقطاعات العساكر، ويكون شيركوه مقيماً بعساكره في مصر ويتصر بأمر نور الدين واختياره. وفبقي نور الدين يقدم إلى هذا العرض رجلاً ويؤخر أخرى، فتارة تحمله رعاية قصد شاور به وطلب الزيادة في الملك والتقوي على الفرنج، وتارة يمنعه خطر الطريق من أجل الفرنج وخوفاً من أن شاور أن استقرت قاعدته ربما لا يفي؛ ثم قوي عزمه على ارسال الجيوش، فتقدم بتجهيزها وازاحة عللها. وكان هوى أسد الدين في ذلك وعنده من الشجاعة وقة النفس ما لا يبالي بمخافة، فتجهز وساروا جميعاً وشاور صحبتهم في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين، وتقدم نور الدين إلى شيركوه أن يعيد شاور إلى منصبه وينتقم له ممن نازعه، ووصل أسد الدين والعساكر إلى مدينة بلبيس، فخرج إليهم ناصر الدين أخو ضرغام بعسكر المصريين ولقيهم فانهزم وعاد إلى القاهرة مهزوماً، ووصل أسد الدين إلى القاهرة أواخر جمادى الآخرة، فخرج الملك المنصور أبو الأشبال ضرغام بن عامر بن سوار الملقب فارس المسلمين اللخمي المنذري-المذكور أول الترجمة-من القاهرة سلخ الشهر، فقتل عند مشهد السيدة نفيسة وبقي يومين ثم حمل ودفن بالقاهرة. وقتل أخوه ناصر الدين، وخلع على شاور مستهل رجب واعيد إلى الوزارة وتمكن منها، والقصة مشهورة...

وحدث ملك الفرنج نفسه بملك مصر وأخذ بلبيس وحكم عليها، وكان استقر بينهم وبين المصريين أن يكون لهم بالقاهرة شحنة وتكون أسوارها بيد فرسانهم ليمتنع نور الدين من إيفاد عسكر إليهم ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار، وهذا كله استقر مع شاور فإن العاضد لم يكن له معه حكم، قد حجر عليه وحجبه عن الأمور كلها.

وعاد الفرنج إلى بلاد الساحل الشامي وتركوا بمصر جماعة من مشاهير فرسانهم. وكان الكامل شجاع بن شاور قد أرسل إلى نور الدين مع بعض الأمراء ينهي إليه محبته وولاءه ويسأله الدخول في طاعته، وضمن على نفسه أنه يجمع الكلمة بمصر على طاعته وبذل مالاً يحمله كل سنة، فأجابه إلى ذلك وحملوا إليه مالاً جزيلاً، فبقي الأمر على ذلك إلى أن قصد الفرنج مصر سنة أربع وستين.وفي ربيع الأول من هذه السنة، سار أسد الدين شيركوه إلى ديار مصر ومعه العساكر النورية، وسبب ذلك ما ذكرناه من تمكن الفرنج وأنهم جعلوا لهم في القاهرة شحنة وتسلموا أبوابها وجعلوا فيها جماعة من فرسانهم وحكموا على المسلمين حكماً جائراً، فلما رأوا ذلك وأن البلاد ليس فيها من يردهم، ارسلوا إلى ملك الفرنج بالشام، وهو مري، ولم يكن للفرنج منذ ظهروا بالشام مثله شجاعةً ومكراً ودهاءً، يستدعونه ليمكلها واعلموه خلوها من ممانع وهونوا عليه أمرها، فلم يجبهم إلى ذلك، فاجتمع عنده فرسان الفرنج وذو الرأي وأشاروا عليه بقصدها، فقال لهم: الرأي عندي أنا لا نقصدها لنملكها فإن صاحبها وعساكره وعامة بلاده لا يسلمونها إلينا ويقاتلوننا دونها ويجعلهم الخوف على تسليمها إلى نور الدين، وأن أخذها وصار له فيها مثل أسد الدين فهو هلاك الفرنج وإجلاؤهم من أرض الشام، فلم يقبلوا قوله وقالوا أنها لا مانع فيها ولا حامي، وإلى أن يجهز نور الدين عسكراً نكون قد ملكناها وفرغنا من أمرها وحينئذ يتمنى نور الجين منا السلامة. فسار معهم على كره وشرعوا يتجهزون ويظهرون أنهم يقصدون مدينة حمص. فلما سمع نور الدين شرع أيضاً في جمع عسكره. وجد الفرنج في السير إلى مصر ونازلوا مدينة بلبيس وملكوها قهراً ونهبوا فيها وأسروا وسبوا. وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج ووعدوهم النصرة عداوة منهم لشاور، منهم ابن الخياط وابن مرجلة، فقوي جنان الفرنج بهم، وساروا من بلبيس إلى مصر فنزلوا على القاهرة وحصروها، فخاف الناس منهم واقبلوا على الامتناع فحفظوا البلد وقاتلوا عليه وبذلوا جهدهم في حفظه. فلو أن الفرنج أحسنوا السيرة في بلبيس لملكوا مصر والقاهرة، ولكن الله حسن لهم ما فعلوا ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. وأمر شاور باحراقها مدينة مصر، وامر أهلها بالانتقال منها إلى القاهرة وان ينهب البلد، فانتقلوا وبقوا على الطرق ونهبت المدينة وافتقر أهلها وذهبت أموالهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم أو يومين خوفاً أن يملكها الفرنج، وبقيت النار فيها أربعة وخمسين يوماً. فأرسل الخليفة العاضد إلى نور الدين يستغيث به ويعرفه ضعف المسلمين عن دفع الفرنج، وأرسل في الكتب شعور النساء وقال: هذه شعور نسائي من قصر تستغيث بك لتنقذهم من الفرنج. فشرع في تجهيز الجيوش.

وأما الفرنج فانهم اشتدوا في حصار القاهرة وضيقوا على أهلها وشاور هو المتولي للأمر والعساكر والقتال، فضاق به المر وضعف عن ردهم، فأخذ في إعمال الحيلة، فأرسل إلى ملك الفرنج يعرفه مودته له ومحبته القديمة، وأن هواه معه لخوفه من نور الدين ومن العاضد، وأن المسلمين لا يوافقونه على التسليم إليه، وبشر بالصلح على أن يعطيه ألف ألف دينار مصرية، يعجل البعض ويؤخر الباقي، فاستقرت القاعدة على ذلك. ورأى الفرنج أن البلاد قد امتنعت عليهم وربما سلمت إلى نور الدين، فأجابوا إلى ذلك فقالوا: نأخذ المال ونتقوى به ونعاود البلاد بقوة لا نبالي معها بنور الدين، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين. فجعل لهم شاور مائة ألف دينار وسألهم الرحيل عنهم ليجمع لهم المال، فرحلوا وشرع شاور يجمع المال من أهل القاهرة ومضى فلم يتحصل له إلا قدر يسير لا يبلغ خمسة آلاف دينار وتنبه أن أهل مصر أحرقت دورهم بما فيها وما سلم نهب وهم لا يقدرون على الأقوات فضلاً على الأقساط، وأما أهل القاهرة فالأغلب فيهم الجند وغلمانهم فلهذا تعذر جمع المال، وهم في خلال هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه وبذلوا له ثلث خراج ديار مصر وأن يكون أسد الدين مقيماً عندهم في عسكر يكون مقطعاً في الديار المصرية خارجاً عن الثلث المختص به.

فأسر نور الدين لأسد الدين بالتجهيز إلى مصر وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الثياب والأسلحة والدواب وغير ذلك وحكمه في العسكر والخزائن، فاختار من العسكر الفي فارس وأخذ المال وجمع ستة آلاف فارس وسار بهم هو وصلاح الدين ابن أخيه. فلما قرب أسد الدين من مصر رحل الفرنج عنها عائدين إلى بلادهم بخفي حنين. فلما وصل أسد الدين إلى القاهرة دخل إلى العاضد فخلع عليه وعاد إلى المخيم بالخلعة وفرح بها أهل مصر وأجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة والاقامات الوافرة. ولم يمكن شاور المنع من ذلك لأنه رأى العساكر كثيرة مع شيركوه وهوى العاضد معهم، فلم يتجاسر على إظهار ما في نفسه وشرع يماطل أسد الدين في تقدير ما كان بذل لنور الدين من المال وإقطاع الجند وهو يركب كل يوم إلى أسد الدين ويسير معه ويعده ويمنيه. ثم أنه عزم على أن يعمل دعوة يدعو لها أسد الدين وجماعة من الأمراء الذين معه ويقبض عليهم ويستخدم من معهم من الجند فتمنع بهم البلاد من الفرنج، فنهاه ابنه الكامل وقال: والله لئن عزمت على هذا لأعرفن شيركوه، فقال له أبوه: والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعاً، فقال: صدقت ولكن نقتل ونحن مسلمون خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج، فإنه ليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل معه فارساً واحداً ويملكون البلاد؛ فترك ما كان عزم عليه.

ولما رأى العسكر النوري مطل شاور خافوا شره، واتفق صلاح الدين ومن معه من الأمراء منهم عز الدين جرديك على قتل شاور، وأعلموا أسد الدين، فنهاهم عنه فسكتوا وهم على العزم. فاتفق أن شاور قصد عسكر أسد الدين على عادته في الخيام فلم يجده-وكان قد مضى لزيارة قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه-فمضى إليه ومعه صلاح الدين وجرديك في جمع من العسكر فساروا جميعاً، فتناوله صلاح الدين وجرديك وألقياه إلى الأرض عن فرسه، فهرب عنه أصحابه وأخذ أسيراً، ولم يمكنهم قتله بغير أمر أسد الدين، فوكلوا به وسيروا أعلموا أسد الدين بالحال، فحضر ولم يمكنه إلا اتمام ما عملوه. وسمع العاضد الخبر فأرسل إلى أسد الدين وطلب إيفاد رأس شاور وبايع الرسل بذلك، فقتل كما تقدم في هذه الترجمة.

أما الكامل بن شاور فانه لم اقتل أبوه دخل إلى القصر هو وأخوته معتصمين به فكان آخر العهد بهم. فكان شيركوه يتأسف كيف عدم لأنه بلغه ما كان منه مع أبيه في منعه من قتل شيركوه. وكان يقول: وددت لو بقي لأحسن إليه جزاء الصنيعة.

وصفا الأمر لأسد الدين وظهرت السنة بالديار المصرية وخطب فيها بعد اليأس للدولة العباسية.