الأفضل ابن أميرالجيوش

أبو القاسم شاهنشاه الملقب الملك الأفضل ابن أمير الجيوش بدر الجمالي.

كان بدر المذكور أرمني الجنس، اشتراه جمال الدولة بن عمار، وتربى عنده وتقدم بسببه، وكان من الرجال المعدودين في ذوي الآراء والشهامة وقوة العزم، واستنابه المستنصر صاحب مصر بمدينة صور، وقيل عكا، فلما ضعف حال المستنصر واختلت دولته-كما سيأتي في ترجمته في حرف الميم إن شاء الله تعالى-وصف له بدر الجمالي المذكور، فاستدعاه وركب البحر في الشتاء في وقت لم تجر العادة بركوبه في مثله، ووصل إلى القاهرة عشية يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى، وقيل الآخرة، سنة ست وستين وأربعمائة، فولاه المستنصر تدبير أموره، وقامت بوصوله الحرمة واصلح الدولة؛ وكان وزير السيف والقلم، وإليه قضاء القضاة والتقدم على الدعاة، وساس الأمور أحسن سياسة، ويقال: إن وصوله كان أول سعادة المستنصر وآخر قطوعه، وكان يلقب أمير الجيوش؛ ولما دخل على المستنصر قرأ قارئ بين يدي المستنصر: (ولقد نصركم الله ببدر). ولم يتم الآية، فقال المستنصر: لو أتمها ضربت عنقه، وجاوز ثمانين سنة، ولم يزل كذلك إلى أن توفي في ذي القعدة، وقيل في ذي الحجة، سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، رحمه الله تعالى.

قال علقمة العليمي: قصدت بدراً الجمالي بمصر فرأيت الناس وكبراءهم وشعراءهم على بابه قد طال مقامهم ولم يصلوا إليه؛ فقال: فبينا أنا كذلك إذ خرج بدر يريد الصيد، فخرج علقمة في إثره، فلما رجع وقف على نشز من الأرض وأومأ برقعة في يده وأنشأ يقول:

نحن التجار وهذه أعلاقنا

 

درر، وجود يمينك المبتاع

قلب وفتشها بسمـعـك إنـمـا

 

هي جوهر تختاره الأسـمـاع

كسدت علينا بالشـآم وكـلـمـا

 

قل النفاق تعطـل الـصـنـاع

فأتاك يحملها إلـيك تـجـارهـا

 

ومطيها الآمـال والأطـمـاع

فوهبت ما لم يعطه فـي دهـره

 

هرم ولا كعب ولا القـعـقـاع

وسبقت هذا الناس في طلب العلا

 

فالناس بعدك كلـهـم أتـبـاع

يا بدر أقسم لو بك اعتصم الورى

 

ولجوا إليك بأسرهم ما ضاعـوا

وكان على يد بدر بازي فألقاه وانفرد عن الجيش وجعل يسترد الأبيات إلى أن استقر في مجلسه ثم قال لجماعة غلمانه وخاصته: من أحبني فليخلع على هذا الشاعر، فخرج من عنده ومعه سبعون بغلاً تحمل الخلع وأمر له بعشرة آلاف درهم وخرج من عنده وفرق كثيراً من ذلك على الشعراء.

وهو الذي بنى الجامع الذي بثغر الإسكندرية المحروس الذي في سوق العطارين، وكان فراغه من عمارته في شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وبنى مشهد الرأس بعسقلان.

ولما مرض واشتد مرضه في شهر ربيع الأول من سنة سبع وثمانين، وزر ولده الأفضل المذكور موضعه في حياته، وقضيته مع نزار بن المستنصر وغلامه أفتكين الأفضلي والي الإسكندرية مشهورة في أخذهما وإحضارهما إلى القاهرة المحروسة، ولم يظهر لهما خبر بعد ذلك، وكان ذلك في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة-وكان المستنصر قد مات في التاريخ المذكور في ترجمته، وأقام الأفضل ولده المستعلي أحمد المقدم ذكره مقامه واستمر على وزارته-فأما أفتكين فإنه قتل ظاهراً، وأما نزار فيقال: إن أخاه المستعلي أحمد-المقدم ذكره-بنى في وجهه حائطاً فمات، والله أعمل، وقد سبق طرف من خبره في ترجمة المستعلي، وأفتكين كان غلام الأفضل المذكور، ونزار المذكور إليه تنتسب ملوك الإسماعيلية أصحاب الدعوة أرباب قلعة الالموت وما معها من القلاع في بلاد العجم.

وكان الأفضل المذكور حسن التدبير فحل الرأي، وهو الذي أقام الآمر ابن المستعلي موضع أبيه في المملكة بعد وفاة أبيه كما فعل مع أبيه، ودبر دولته وحجر عليه ومنعه من ارتكاب الشهوات، فإنه كان كثير اللعب-كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى-فحمله ذلك على أن عمل على قتله، فأوثب عليه جماعة، وكان يسكن بمصر في دار الملك التي على بحر النيل، وهي اليوم دار الوكالة، فلما ركب من داره المذكور وتقدم إلى ساحل البحر وثبوا عليه فقتلوه، وذلك في سلخ رمضان المعظم عشية يوم الأحد سنة خمس عشرة وخمسمائة، رحمه الله تعالى.

وهو والد أبو علي أحمد بن شاهنشاه-الآتي ذكره في ترجمة الحافظ أبي الميمون عبد المجيد العبيدي صاحب مصر، وما اعتده في حقه إن شاء الله تعالى-.

وقد تقدم في ترجمة المستعلي أحمد صاحب مصر وفي ترجمة أرتق التركماني طرف من حديث الأفضل المذكور وما فعل في أخذ القدس من سكمان وغيل غازي ابني أرتق التركماني.

ثم رأيت بعد ذلك في كتاب "الدول المنقطعة" في ترجمة المستعلي شيئاً آخر فألحقته ها هنا، فإنه قال: إن الأفضل تسلم القدس في يوم الجمعة لخمس بقين من شهر رمضان من سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، وولى فيه من قبله، فلم يكن لمن فيه طاقة بالفرنج، فأخذوه بالسيف في شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، ولو ترك في يد الأرتقية لكان أصلح للمسلمين، فندم الأفضل حين لم ينفعه الندم.

وخلف الفضل من الأموال ما لم يسمع بمثله؛ قال صاحب "الدول المنقطعة": خلف ستمائة ألف ألف دينار عيناً، ومائتين وخمسين إردباً دراهم نقد مصر، وخمسة وسبعين ألف ثوب ديباج أطلس، وثلاثين راحلة أحقاق ذهب عراقي، ودواة ذهب فيها جوهر قيمته اثنا عشر الف دينار، ومائة مسمار من ذهب وزن كل مسمار مائة مثقال، في عشرة مجالس في كل مجلس عشرة مسامير على كل مسمار منديل مشدود مذهب بلون من الألوان أيما أحب منها لبسه، وخمسمائة صندوق كسوة لخاصه من دق تنيس ودمياط، وخلف من الرقيق والخيل والبغال والمراكب والطيب والتجمل والحلي ما لم يعلم قدره إلا الله سبحانه وتعالى، وخلف خارجاً عن ذلك من البقر والجواميس والغنم ما يستحيا من ذكر عدده، وبلغ ضمان ألبانها في سنة وفاته ثلاثين ألف دينار، ووجد في تركته صندوقان كبيران فيهما إبر ذهب برسم النساء والجواري.