القاضي شريط النخعي

أبو عبد الله شريك بن عبد الله بن أبي شريك وهو الحارث بن أوس بن الحارث بن الأذهل بن وهبيل بن سعد بن مالك بن النخع النخعي، وبقية النسبة في ترجمة إبراهيم النخعي في أول هذا الكتاب؛ تولى القضاء بالكوفة أيام المهدي، ثم عزله موسى الهادي. أدرك عمر بن عبد العزيز وسمع أبا أسحاق السبيعي ومنصور بن المعتمر وعبد الملك بن عمير وسماك بن حرب وغيرهم، وروى عند عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام ووكيع بن الجراح وغيرهم؛ وكان شريك ولد ببخارى من أرض خراسان، وكان جده قد شهد القادسية.

وكان عالماً فهماً ذكياً فطناً، حكم يوماً على وكيل عبد الله بن مصعب بحكم لم يوافق هوى عبد الله، فالتقى شريط بن عبد الله وعبد الله بن مصعب بحضرة المهدي فقال عبد الله بن مصعب لشريك: ما حكمت على وكيلي بالحق، قال: ومن أنت؟ قال: من لا ينكر. قال: قد نكرتك أشد النكير، قال: أنا عبد الله بن مصعب، قال: لا كبير ولا طيب، قال: وكيف لا تقول ذلك وأنت تنتقص الشيخين؟! قال: ومن الشيخان؟ قال: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، قال: والله ما أتنقص جدك وهو دونهما فكيف أتنقصهما؟.

وذكر معاوية بن أبي سفيان عنده ووصف بالحلم، فقال شريك: ليس بحليم من سفه الحق وقاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وخرج شريط يوماً إلى أصحاب الحديث ليسمعوا عليه، فشموا منه رائحة النبيذ، فقالوا له: لو كانت هذه الرائحة منا لاستحيينا، فقال: لأنكم أهل ريبة.

ودخل يوماً على المهدي فقال له: لابد أن تجيبني إلى خصلة من ثلاث خصال، قال: وما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: إما أن تلي القضاء أو تحدث ولدي وتعلمهم أو تأكل عندي أكلة، وذلك قبل أن يلي القضاء، فأفكر ساعة ثم قال: الأكلة أخفها على نفسي، فأجلسه وتقدم إلى الطباخ أن يصلح له ألواناً من المخ المعقود بالسكر الطبرزذ والعسل وغير ذلك، فعمل ذلك وقدمه إليه فأكل، فلما فرغ من الأكل قال له الطباخ: والله يا أمير المؤمنين ليس يفلح الشيخ بعد هذهالأكلة أبداً؛ قال الفضل بن الربيع: فحدثهم والله شريك بعد ذلك، وعلم أولادهم وولي القضاء لهم.

ولقد كتب له برزقه على الصيرفي فضايقه في النقد، فقال له الصيرفي: إنك لم تبع به بزاً، فقال له شريك: بل والله بعت أكثر من البز، بعت به ديني.

وقال يحيى بن اليمان: لما ولي شريك القضاء أكره على ذلك وأقعد معه جماعة من الشرط يحفظونه، ثم طاب للشيخ فقعد من نفسه، فبلغ سفيان الثوري أنه قعد من نفسه فجاء فتراءى له، فلما رأى الثوري قام إليه فعظمه وأكرمه ثم قال: يا أبا عبد الله، هل من حاجة؟ قال: نعم، مسألة، قال: أو ليس عندك من العلم ما يجزئك؟ قال: أحببت أن أذكرك بها، قال: قل، قال: ما تقول في امرأة جاءت فجلست على باب رجل فاحتملها ففجر بها، لمن تحد منهما؟ فقال: الرجل دونها لأنها مغصوبة، قال: فإنه لما كان من الغد جاءت فتزينت وتبخرت وجلست على ذلك الباب ففتح الرجل فرآها فاحتملها ففجر بها، لمم تحد؟ قال: أحدهما جميعاً لأنها جاءت من نفسها وقد علمت الخبر بالأمس، قال: أنت كان عذرك حين كان الشرط يحفظونك؛ اليوم أي عذر لك؟ قال: يا أبا عبد الله، أكلمك، قال: ما كان الله ليراني أكلمك أو تتوب؟ قال: ووثب فلم يكلمه حتى مات؛ وكان إذا ذكره قال: أي رجل كان لو لم يفسدوه.

واجتمع شريط ويحيى بن عبد الله بن الحسن البصري في دار الرشيد، فقال يحيى لشريك: ما تقول في النبيذ؟ قال: حلال، قال: شربه خير أم تركه؟ قال: بل شربه، قال: قليله خير أم كثيره؟ قال: بل قليله؛ قال يحيى: ما رأيت خيراً قط إلا والازدياد منه خير إلا خيرك هذا، فإن قليله خير من كثيره.

وروى صالح بن علي قال: كنت مع المهدي فدخل عليه شريك بن عبد الله فأراد أن يبخره، فقال لخادم على رأسه: هات عوداً للقاضي، فجاء الخادم بالعود الذي يلهى به فوضعه في حجر شريك، فقال شريك: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا أخذه صاحب العسس البارحة فأحببت أن يكون كسره على يد القاضي، فقال: جزاك الله يا أمير المؤمنين خيراً، فكسره. ثم أفاضوا في حديث حتى نسي الأمر ثم قال المهدي لشريك: ما تقول في رجل أمر وكيلاً له أن يأتي بشيء بعينه فأتى بغيره فتلف ذلك الشيء؟ فقال: يضمن يا أمير المؤمنين، فقال للخادم: اضمن ما تلف بقيمته.

وكان شريك يشاحن الربيع صاحب شرطة المهدي، فكان يحمل المهدي عليه، فدخل شريك يوماً على المهدي فقال له المهدي: بلغني أنك ولدت في قوصرة، قال: يا أمير المؤمنين، ولدت بخراسان والقواصر هناك عزيزة، قال: إني لأراك فاطمياً خبيثاً، قال: والله إني لأحب فاطمة، وأبا فاطمة صلى الله عليه وسلم، قال: وأنا والله أحبهما، ولكني رأيتك في منامي مصروفاً وجهك عني، وما ذاك إلا لبغضك لنا، وما أراني إلا قاتلك لأنك زنديق، قال: يا أمير المؤمنين إن الدماء لا تسفك بالأحلام، وليست رؤياك رؤيا يوسف عليه السلام؛ وأما قولك إني زنديق فإن للزنادقة علامة يعرفون بها، قال: وما هي؟ قال: شرب الخمور والضرب بالطنبور، قال: صدقت أبا عبد الله، وأنت خير من الذي حملني عليك.

قال مصعب بن عبد الله الزبيري: حدثني أبي قال: دخل شريك على المهدي فقال له: ما ينبغي أن تقلد الحكم بين المسلمين، قال: ولم؟ قال: لخلافك على الجماعة وقولك بالإمامة، فقال: أما قولك: لخلافك على الجماعة، فمن الجماعة أخذت ديني، فكيف أخالفهم وهم أصل ديني، وأما قولك: وقولك بالإمامة، فما أعرف إلا كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأما قولك: مثلك لا يقلد الحكم بين المسلمين، فهذا شيء أنتم فعلتموه، فإن كان خطأ فلتستغفروا الله منه، وإن كان صواباً فامسكوا عليه. قال: ما تقول في علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ قال: ما قال فيه جدك العباس وعبد الله، قال: وما قالا فيه؟ قال: أما العباس فمات وعلي عنده أفضل الصحابة، وقد كان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عما ينزل من النوازل وما احتاج إلى أحد حتى لحق بالله. وأما عبد الله فإنه كان يضرب بين يديه بسيفين، وكان في حروبه رأساً متبعاً وقائداً مطاعاً، فلو كانت إمامة علي جوراً لكان أول من يقعد عنها أبوك لعلمه بدين الله وفقهه في أحكام الله. فسكت المهدي وأطرق، ولم يمض بعد هذا المجلس إلا قليل حتى عزل شريك.

وقال عبد الله العجلي: قدم هارون الكوفة فعزل شريكاً عن القضاء، وكان موسى بن عيسى والياً على الكوفة، فقال موسى لشريك: ما صنع أمير المؤمنين بأحد ما صنع بك: عزلك عن القضاء، قال له شريك: هم أمراء المؤمنين يعزلون الولاة ويخلعون ولاة العهود فلا يعاب ذلك عليهم، فقال موسى: ما ظننت أنه مجنون هكذا لا يبالي ما تكلم به، وكان أبوه عيسى بن موسى ولي العهد بعد أبي جعفر فخلعه أبو جعفر.

وحكى الحريري في كتاب درة الغواص أنه كان لشريك المذكور جليس من بني أمية، فذكر شريك في بعض الأيام فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنهن فقال ذلك الأموي: نعم الرجل علي، فأغضبه ذلك وقال: ألعي يقال نعم الرجل؟ فأمسك حتى سكن غضبه ثم قال: يا أبا عبد الله ألم يقل الله تعالى في الإخبار عن نفسه: (فقدرنا فنعم القادرون)، وقال في أيوب: (إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب)، وقال في سليمان: (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد)، فلا ترضى لعلي بما رضي الله به لنفسه ولأنبيائه؟ فتنبه شريك عند ذلك لوهمه، وزادت مكانة ذلك الأموي من قلبه.

وكان عادلاً في قضائه كثير الصواب حاضر الجواب، قال له رجل يوماً: ما تقول فيمن أراد أن يقنت في الصبح قبل الركوع فقنت بعده؟ فقال: هذا أراد أن يخطئ فأصاب.

وكان مولده ببخارى سنة خمس وتسعين للهجرة، وتولى القضاء بالكوفة ثم بالأهواز، وتوفي يوم السبت مستهل ذي القعدة سنة سبع وسبعين ومائة بالكوفة، وقال خليفة بن خياط: مات سنة سبع أو ثمان وسبعين ومائة، رحمه الله تعالى. وكان هارون الرشيد بالحيرة، فقصده ليصلي عليه فوجدهم قد صلوا عليه، فرجع.

والنخعي: بفتح النون والخاء المعجمة وبعدها عين مهملة، هذه النسبة إلى النخع، وهي قبيلة كبيرة من مذحج.

قلت: هكذا وجدت نسبه في "جمهرة النسب" لابن الكلبي، ثم وجدت في نسخة أخرى "ابن أبي شريك أوس بن الحارث بن ذهل بن وهبيل"، والله أعلم بالصواب.