القاضي شريح

أبو أمية شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم بن معاوية بن عامر بن الرائش ابن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع-بتشديد التاء المثناة من فوقها وكسرها-الكندي، وثور بن مرتع هو كندة، وفي نسبه اختلاف كثير، وهذه الطريق أصحها؛ كان من كبار التابعين، وأدرك الجاهلية، واستقضاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الكوفة، فأقام قاضياً خمساً وسبعين سنة لم يتعطل فيها إلا ثلاث سنين امتنع فيها من القضاء في فتنة ابن الزبير، واستعفى الحجاج بن يوسف من القضاء فأعفاه، ولم يقض بين اثنتين حتى مات.

وكان أعلم الناس بالقضاء، ذا فطنة وذكاء ومعرفة وعقل ورصانة، قال ابن عبد البر: وكان شاعراً محسناً، وهو أحد السادات الطلس، وهم أربعة: عبد الله بن الزبير، وقيس بن سعد بن عبادة، والأحنف بن قيس الذي يضرب به المثل في الحلم، والقاضي شريح المذكور. والأطلس: الذي لا شعر في وجهه.

وكان مزاحاً، دخل عليه عدي بن أرطاة فقال له: أين أنت أصلحك الله؟ فقال: بينك وبين الحائط، قال: استمع مني، قال: قل أسمع، قال: إني رجل من أهل الشام، قال: مكان سحيق، قال: تزوجت عندكم، قال: بالرفاء والبنين، قال: وأردت أن ألحها، قال: الرجل أحمق بأهله، قال: وشرطت لها دارها، قال: الشرط أملك، قال: فاحكم الآن بيننا، قال: قد فعلت، قال: فعلى من حكمت؟ قال: على ابن أمك، قال: بشهادة من؟ قال: بشهادة ابن أخت خالتك.

وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه دخل مع خصم له ذمي إلى القاضي شريح فقام له، فقال: هذا أول جورك، ثم أسند ظهره إلى الجدار وقال: أما إن خصمي لو كان مسلماً لجلست بجنبه.

وروي أن علياً رضي الله عنه قال: اجمعوا لي القراء، فاجتمعوا في رحبة المسجد، فقال: إني أوشك أن أفارقكم، فجعل يسائلهم: ما تقولون في كذا؟ ما تقولون في كذا؟ وشريح ساكت، ثم سأله، فلما فرغ منهم قال: اذهب فأنت من أفضل الناس، أو من أفضل العرب.


وتزوج شريح امرأة من بني تميم تسمى زينب، فنقم عليها شيئاً فضربهان ثم ندم وقال:

رأيت رجالاً يضربون نـسـاءهـم

 

فشلت يميني يوم أضـرب زينـبـا

أأضربها من غير ذنـب أتـت بـه

 

فما العدل مني ضرب من ليس مذنبا

فزينب شمس والنـسـاء كـواكـب

 

إذا طلعت لم تبق منهن كـوكـبـا

وهكذا ذكر هذه الحكاية صاحب "العقد".

ويروى أن زياد بن أبيه كتب إلى معاوية: "يا أمير المؤمنين، قد ضبطت لك العراق بشمالي، وفرغت يميني لطاعتك، فولني الحجاز"، فبلغ ذلك عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما، وكان مقيماً بمكة، فقال: اللهم اشغل عنا يمين زياد، فأصابه الطاعون في يمينه، فجمع الأطباء واستشارهم، فأشاروا عليه بقطعها، فاستدعى القاضي شريحاً وعرض عليه ما أشار به الأطباء، فقال لهك لك رزق معلوم وأجل مقسوم وإني أكره إن كانت لك مدة أن تعيش في الدنيا بلا يمين، وإن كان قد دنا أجلك أن تلقى ربك مقطوع اليد فإذا سألك: لم قطعتها؟ قتل: بغضاً في لقائك وفراراً من قضائك. فمات زياد من يومه، فلام الناس شريحاً على منعه من القطع، لبغضهم له، فقال: إنه استشارني والمستشار مؤتمن، ولولا الأمانة في المشورة لوددت أنه قطع يده يوماً ورجله يوماً وسائر جسده يوماً يوماً.

وكتب شريح إلى أخ له هرب من الطاعون: أما عد فإنك أنت الذي بعين من لا يعجزه من طلب ولا يفوته من هرب، والمكان الذي خلفته لم يعجل أمرءاً حمامه ولم يظلمه أيامه، وأنك وإياهم لعلى بساط واحد؛ إن المنتجع من غير ذي قدرة لقريب والسلام.

وعن الشعبي قال: شهدت شريحاً وجاءته امرأة تخاصم رجلاً فأرسلت عينيها فبكت، فقلت أنا: ما أظن هذه البائسة إلا مظلومة، فقال: يا شعبي أن إخوة يوسف عليه السلام جاءوا اباهم عشاء يبكون.

وسئل شريح عن الحجاج: اكان مؤمناً؟ قال: نعم، بالطاغوت، كافراً بالله تعالى.

وكانت وفاة القاضي شريح سنة سبع وثمانين للهجرة وهو ابن مائة سنة، وقيل سنة اثنتين وثمانين، وقيل سنة ثمان وسبعين، وقيل سنة ثمانين، وقيل سنة تسع وسبعين، وقيل سنة ست وسبعين، وهو ابن مائة وعشرين سنة، وقيل مائة وثماني سنين، رضي الله عنه.

والكندي: بكسر الكاف وسكون النون وبعدها دال مهملة، هذه النسبة إلى كندة، وهو ثور بن مرتع بن مالك بن زيد بن كهلان، وقيل ثور بن عفير بن الحارث بن مرة بن أدد، وسمي كندة أباه نعمته: أي كفرها.