الصالح بن رزيك

أبو الغارات طلائع بن رزيك الملقب الملك الصالح وزير مصر؛ كان والياً بمنية بني خصيب من أعمال صعيد مصر، فلما قتل الظافر إسماعيل صاحب مصر-كما تقدم في حرف الهمزة-سير أهل القصر إلى الصالح، واستنجدوا به على عباس وولده نصر المتفقين على قتله، فتوجه الصالح إلى القاهرة ومعه جمع عظيم من العربان، فلما قربوا من البلد هرب عباس وولده وأتباعهما ومعهما أسامة بن منقذ-المذكور في حرف الهمزة أيضاً-لأنه كان مشاركاً لهما في ذلك على ما يقال، ودخل الصالح إلى القاهرة وتولى الوزارة في أيام الفائز، واستقل بالأمور وتدبير أحوال الدولة، وكانت ولايته في التاسع عشر من شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وخمسمائة. وكان فاضلاً سمحاً في العطاء سهلاً في اللقاء محباً لأهل الفضائل جيد الشعر، وقفت على ديوان شعره وهو في جزاين، ومن شعره قوله:

 

كم ذا يرينا الدهر من أحـداثـه

 

عبراً وفينا الصد والإعـراض

ننسى الممات وليس يجري ذكره

 

فينا فتذكرنـا بـه الأمـراض

 

ومن شعره أيضاً:

ومهفهف ثمل القوام سرت إلى

 

أعطافه النشوات من عينـيه

ماضي اللحاظ كأنما سلت يدي

 

سيفي غداة الروع من جفنـيه

قد قلت إذ خط العذار بمسـكة

 

في خـده ألـفـيه لا لامـيه

ما الشعر دب بعارضيه وإنمـا

 

أصداغه نفضت على خـديه

الناس طوع يدي وامري نافـذ

 

فيهم وقلبي الآن طـوع يديه

فاعجب لسلطان يعم بعـدلـه

 

ويجور سلطان الغرام علـيه

والله لولا اسم الفـرار وأنـه

 

مستقبح لفررت مـنـه إلـيه

 

وروى عنه أبو الحسن علي بن إبراهيم بن نجا بن غنائم الأنصاري الملقب زين الدين الحنبلي المعروف بابن نجية الواعظ المشهور الدمشق قال: أنشدني طلائع بن رزيك لنفسه بمصر:

مشيبك قد نضا صبغ الشباب

 

وحل الباز في وكر الغراب

تنام ومقلة الحدثان يقـظـى

 

وما ناب النوائب عنك نابي

وكيف بقاء عمرك وهو كنز

 

وقد أنفقت منه بلا حسـاب

 

وكان المهذب عبد الله بن أسعد الموصلي نزيل حمص قد قصده من الموصل، ومدحه بقصيدته الكافية التي أولها:

أما كفاك تلافي في تلافيكا

 

ولست تنقم إلا فرط حبيكا

 

وهي من نخب القصائد، ومخلصها:

وفيم تغضب أن قال الوشاة سـلا

 

وأنت تعلم أني لستت أسلـوكـا

لأنك وصلك إن كان الذي زعموا

 

ولا شفى ظمئي وجود ابن رزيكا

 

وهي طويلة ولولا خوف الإطالة لكتبتها.


ولما مات الفائز وتولى العاضد مكانه استمر الصالح على وزارته وزادت حرمته وتزوج العاضد ابنته، فاغتر بطول السلامة، وكان العاضد تحت قبضته وفي أسره، فلما طال عليه ذلك أعمل الحيلة في قتله، فاتفق مع قوم من أجناد الدولة يقال لهم أولاد الراعي وتقرر ذلك بينهم، وعين لهم موضعاً في القصر يجلسون فيه مستخفين، فإذا مر بهم الصالح ليلاً أو نهاراً قتلوه، فقعدوا له ليلة وخرج من القصر، فقاموا ليخرجوا غليه، فاراد أحدهم أن يفتح غلق الباب فأغلقه وما علم، فلم يحصل مقصودهم تلك الليلة لأمر أراده الله تعالى في تأخير الأجل، ثم جلسوا له يوماً آخر، فدخل القصر نهاراً فوثبوا عليه وجرحوه جراحات عديدة بعضها في رأسه، ووقع الصوت، فعاد أصحابه إليه فققتلوا الذين جرحوه وحمل إلى داره مجروحاً ودمه يسيل، وأقام بعض يوم. ومات يوم الاثنين تاسع عشر رمضان سنة ست وخمسين وخمسمائة، رحمه الله تعالىن وكانت ولادته في سنة خمس وتسعين وأربعمائة. وخرجت الخلع لولده العادل يحيى الدين رزيك-المقدم ذكره في ترجمة شاور-يوم الثلاثاء ثاني يوم وفاة أبيه، وكنيته أبو شجاع، ولما تولى الوزارة لقبوه العادل الناصر.


ولما مات رثاه الفقيه عمارة اليمنى بقصيدة، أولها:

أفي أهل ذا النادي عليم أسـائلـه

 

فإني لما بي ذاهب اللب ذاهـلـه

سمعت حديثاً أسحد الصم عـنـده

 

ويذهل واعيه ويخـرس قـائلـه

فهل من جواب يستغيث به المنـى

 

ويعلو على حق المصيبة باطلـه

وقد رابني من شاهد الحال أنـنـي

 

أرى الدست منصوباً وما فيه كافله

فهل غاب عنه واستناب سـلـيلـه

 

أم اختار هجراً لا يرجى تواصله

فإني ارى فوق الـوجـوه كـآبة

 

تدل على أن الوجوه ثـواكـلـه

 

ومنها:

دعوني فما هـذا أوان بـكـائه

 

سيأتيكم طل البكـاء ووابـلـه

ولا تنكروا حزني عليه فإننـي

 

تقشع عني وابل كنت آمـلـه

ولما لا نبكيه وننـدب فـقـده

 

وأولادنا أيتـامـه وأرامـلـه

فيما ليت شعري بعد حسن فعاله

 

وقد غاب عنا ما بنا الله فاعلـه

أيكرم مثوى ضيفكم وغيربكـم

 

فيمكث أم تطوى ببين مراحله

 

 وهي طويلة؛ وكان قد دفن بالقاهرة، ثم نقله ولده العادل من دار الوزارة التي دفن بها، وهي المعروفة بانشاء الأفضل شاهان شاه-المقدم ذكره-؛ وكان نقله في تاسع عشر صفر سنة سبع وخمسين في تابوت وركب خلفه العاضد إلى تربته التي بالقرافة الكبرى، فعمل في ذلك الفقيه عمارة أيضاً قصيدة طويلة أجاد فيها، ومن جملتها في صفة التابوت:

وكأنه تابوت موسى أودعت

 

في جانبيه سكينة ووقـار

وله فيه مرات كثيرة.

وهذا الصالح هو الذي بنى الجامع الذي على باب زويلة بظاهر القاهرة.

وأما ولده العادل رزيك فقد ذكرت في ترجمة شاور تاريخ هربه من القاهرة، وكان قد حمل معه من الذخائر ما لا يحصى، ومعه أهله وحاشيته، واستجار بسليمان، وقيل بيعقوب بن النيص اللخمي، وكان من خواص أصحابهم، وحصل من جهتهم نعمة وافرة، فأنزلهم عنده وهو بإطفيح، وسار من ساعته إلى شاور وأعلمه بهم، فندب معه جماعة ومضوا إلى العادل وأخذوه أسراً وأحضروه إلى باب شاور، فوقف زماناً طويلاً ثم حبسه.

ثم قال شاور لابن النيص: لقد خبأك الصالح ذخيرة صالحة لولده وأنا أخبؤك أيضاً لولدي، ثم شنقه، وبقي العادل في الاعتقال مدة مديدة، ثم قتله وأخرج رأسه لأمراء الدولة.

ومن العجائب أن الصالح ولي الوزارة في التاسع عشرن وقتل في التاسع عشر، ونقل تابوته في التاسع عشر، وزالت دولتهم في التاسع عشر.

ورزيك: بضم الراء وتشديد الزاي المكسورة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها كاف.

وكانت ولادة زين الدين الواعظ المذكور سنة ثمان وخمسمائة بدمشق، ونشأ لها وقدم بغداد مراراً، وصاهر أبا الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل بن سعد البلنسي الأنصاري الأندلسي على ابنته أم عبد الكريم فاطمة، وانتقل قبل وفاته إلى مصر، وحدث بها، وتوفي يوم الأربعاء ثامن رمضان سنة تسع وتسعين وخمسمائة بمصر، وهو المعروف بابن نجية، رحمه الله تعالى.