الشعبي

أبو عمرو عامر بن شراحيل بن عبد بن ذي كبار، وذو كبار قيلٌ من أقيال اليمن، الشعبي، وهو من حمير وعداده في همدان؛ وهو كوفي تابعي جليل القدر وافر العلم، روي أن ابن عمر رضي الله عنه مر به يوماً وهو يحدث بالمغازي فقال: شهدت القوم وإنه أعلم بها مني. وقال الزهري: العلماء أربعة: ابن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام. ويقال إنه أدرك خمسمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحكى الشعبي قال: أنفذني عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم، فلما وصلت إليه جعل لا يسألني عن شيء إلا أجبته، وكانت الرسل لا تطيل الإقامة عنده، فحبسني أياماً كثيرة حتى استحثثت خروجي، فلما أردت الانصراف قال لي: من أهل بيت المملكة أنت؟ فقلت: لا، ولكني رجل من العرب في الجملة، فهمس بشيء، فدفعت إلي رقعة وقال لي: إذا أديت الرسائل إلى صاحبك فأوصل إليه هذه الرقعة، قال: فأديت الرسائل عند وصولي إلى عبد الملك وأنسيت الرقعة،، فلما صرت في بعض الدار أريد الخروج تذكرتها، فرجعت فأوصلتها إليه، فلما قرأها قال لي: أقال لك شيئاً قبل أن يدفعها إليك؟ قلت: نعم، قال لي: من أهل بيت المملكة أنت؟ قلت: لا، ولكني من العرب في الجملة. ثم خرجت من عنده، فلما بلغت الباب رُددت، فلما مثلت بين يديه قال لي: أتدري ما في الرقعة؟ قلت:لا، قال: اقرأها، فقرأتها فإذا فيها " عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف ملكوا غيره "، فقلت له: والله لو علمت ما حملتها، وإنما قال هذا لأنه لم يرك، قال: أفتدري لم كتبها؟ قلت: لا، قال: حسدني عليك، وأراد أن يغريني بقتلك، قال: فتأدى ذلك إلى ملك الروم فقال: ما أردت إلا ما قال.

"ولما حمل الشعبي إلى عبد الملك ونادمه قال له: يا شعبي، لا تساعدني على قبح ولا ترد علي الخطأ في مجلسي ولا تكلفني جواب التشميت ولا جواب السؤال والتعزية، ودع عنك كيف أصبح الأمير وكيف أمسى، واجعل بدل التعريض لي صواب الاستماع مني، واعلم أن صواب الاستماع أولى من صواب القول، وإذا سمعتني أتحدث فلا يفتك منه شيء، وارعني فهمك وسمعك، ولا تجهد نفسك في تطرية سواي، ولا تستدع بذلك الزيادة من كلامي، فإن اسوأ الناس حالاً من شكر الملوك بالباطل وأسوأ حالاً منه من استخف بحقهم؛ واعلم يا شعبي أن أقل من هذا يذهب بسالف الاحسان ويسقط حق الحرمة، وان الصمت في موضعه وعند إصابته فرصة.

وكان أعرابي يجالس الشعبي ويطيل الصمت، فقال له الشعبي يوماً: ألا تتكلم؟ فقال: أسكت فأسلم وأسمع فأعلم؛ إن حظ المرء في أذنه له، وفي لسانه لغيره.

وقال رجل للشعبي كلاماً أقذع فيه فقال له: ان كنت صادقاً غفر الله لي وإن كنت كاذباً غفر الله لك.

وسئل الشعبي عن الرجل يعسر عن الأضحية ولا يجد ما يشتري فقال: لأن اتركها وأنا موسر أحب إلي من أن اتكلفها وأنا معسر.

وقال الشعبي: كانت درة عمر رضي الله عنه أهيب من سيف الحجاج؛ وقال أيضاً: من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها.

وأحضر الشعبي بين يدي الحجاج - وكان قد خرج مع ابن الأشعث - فسلم على الحجاج بالإمرة ثم قال: أيها الأمير إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك لغير ما يعلم الله انه الحق؛ وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا حقاً: قد والله خرجنا عليك وجهدنا كل الجهد فما كنا بالفجرة الأقوياء ولا البررة الأتقياء، وقد نصرك الله علينا وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إلينا أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك؛ وبعد، فالحجة لك علينا. فقال الحجاج: أنت والله أحب إلي ممن يدخل علي يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول: ما فعلت وما شهدت؛ قد أمنت عندنا يا شعبي، فانصرف.

وقال له الحجاج: يا شعبي، ما كان عبد الرحمن يزجر حين رآني نزلت دير قرة ونزل هو دير الجماجم محارباً؛ وكان أبداً يقول هذا الكلام على سبيل الفأل والزجر ".

وكلم الشعبي عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين في قوم حبسهم ليطلقهم فأبى، فقال له: أيها الأمير، إن حبستهم بالباطل فالحق يخرجهم، وإن حبستهم بالحق فالعفو يسعهم، فأطلقهم.

وكان ضئيلاً نحيفاً، فقيل له يوماً: ما لنا نراك ضئيلاً؟ فقال: زوحمت في الرحم، وكان قد ولد هو وأخ آخر في بطن وأقام في البطن سنتين، ذكره في كتاب " المعارف ". ويقال إن الحجاج بن يوسف الثقفي قال له يوماً: كم عطاءك في السنة؟ فقال: ألفين، فقال: ويحك! كم عطاؤك؟ فقال: ألفان، قال: كيف لحنت أولاً؟ قال: لحن الأمير فلحنت، فلما أعرب أعربت، وما أمكن أن يلحن الأمير وأعرب أنا. فاستحسن ذلك منه وأجازه.

وكان مزاحاً، يحكى أن رجلاً دخل عليه ومعه امرأة في البيت فقال: أيكما الشعبي؟ فقال: هذه.

وكانت ولادته لست سنين خلت من خلافة عثمان رضي الله عنه، وقيل سنة عشرين للهجرة، وقيل إحدى وثلاثين، وروي عنه أنه قال: ولدت سنة جلولاء وهي سنة تسع عشرة. وقال قتادة: ولد الشعبي لأربع سنين بقين من خلافة عمر رضي الله عنه، وقال خليفة بن خياط: ولد الشعبي والحسن البصري في سنة إحدى وعشرين، وقال الأصمعي: في سنة سبع عشرة بالكوفة. وتوفي بالكوفة سنةأربع، وقيل ثلاث، وقيل ست، وقيل سبع، وقيل خمس ومائة، وكانت وفاته فجأة. وكانت أمه من سبي جلولاء، رضي الله عنه.

وشراحيل: بفتح الشين المعجمة والراء وبعد الألف حاء مهملة مكسورة ثم ياء ساكنة مثناة من تحتها وبعدها لام.

والشعبي: بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة وبعدها باء موحدة، هذه النسبة إلى شعب، وهو بطن من همدان، وقال الجوهري: هذه النسبة إلى جبل باليمن نزله حسان بن عمرو الحميري هو وولده ودفن به، وهو ذو شعبين، فمن كان بالكوفة منهم قيل لهم: شعبيون، ومن كان منهم بمصر والمغرب قيل لهم: الأشعوب، ومن كان منهم بالشام قيل لهم: شعبانيون، ومن كان باليمن قيل لهم: آل ذي شعبين.

وجلولاء: بفتح الجيم وضم اللام ومد آخره، قرية بناحية فارس كانت بها الوقعة المشهورة زمن الصحابة رضي الله عنهم.

وكان كثيراً يتمثل بقول مسكين الدارمي:

ليست الأحلام في حال الرضى           إنما الأحلام في وقت الغضب