ابن أسعد الموصلي

أبو الفرج عبد الله بن أسعد بن علي بن عيسى بن علي المعروف بابن الدهان الموصلي، ويعرف بالحمصي أيضاً، الفقيه الشافعي المنعوت بالمهذّب؛ كان فقيهاً فاضلاً أديباً شاعراً لطيف الشعر مليح السبك حسن المقاصد، غلب عليه الشعر واشتهر به وله ديوان صغير وكله جيد، وهو من أهل الموصل ولما ضاقت به الحال عزم على قصد الصالح بن رُزّيك وزير مصر المذكور في حرف الطاء، وعجزت قدرته عن استصحاب زوجته فكتب إلى الشريف ضياء الدين أبي عبد الله زيد بن محمد بن محمد بن عبيد الله الحسيني نقيب العلويين بالموصل هذه الأبيات:

وذات شجوٍ أسال البين عـبـرتـهـا

 

باتت تؤمِل بالتفـنـيد إمـسـاكـي

لجت فلما رأتنـي لا أصـيخ لـهـا

 

بكت فأقرح قلبي جفنها الـبـاكـي

قالت وقد رأت الأجمـال مـحـدجةً

 

والبين قد جمع المشكو والشـاكـي

من لي إذا غبت في ذا المحل قلت لها

 

الله وابـن عـبـيد الـلـه مـولاك

لا تجزعي بانحباس الغيث عنك فقـد

 

سألت نوء الثريا جـود مـغـنـاك

 

فتكفل الشريف المذكور لزوجته بجميع ما تحتاج إليه مدة غيبته عنها. ثم توجه إلى مصر ومدح الصالح بن رزيك بالقصيدة الكافية، وقد ذكرت بعضها هناك، ثم تقلبت به الأحوال وتولى التدريس بمدينة حمص، وأقام بها فلهذا ينسب إليها.


 قال العماد الكاتب فيه الخريدة: مازلت وأنا بالعراق، إلى لقائه بالأشواق، فإني كنت أقف على قصائده المستحسنة، ومقاصده الحسنة، وقد سارت كافيته بين فضلاء الزمان كافةً فشهدت بكفايته، وسجلت بأن أهل العصر لم يبلغوا إلى غايته. ثم قال بعض الثناء عليه: فيه تمتمة تسفر عن فصاحة تامة، وعقدة لسانٍ تبين فقه في القول. ثم قال بعد ذلك: ولما وصل السلطان صلاح الدين رحمه الله إلى حمص وخيم بظاهرها خرج إلينا أبو الفرج المذكور، فقدمته إلى السلطان، وقلت له: هذا الذي يقول في قصيدته الكافية التي في ابن رزيك:

 

أأمدح الترك أبغي الفضل عندهـم

 

والشعر ما زال عند الترك متروكا

 

قال: فأعطاه السلطان وقال: حتى لا يقول إنه متروك، ثم امتدح السلطان بقصيدته العينية التي يقول فيها:

قل للبخيلة بـالـسـلام تـورعـاً

 

كيف استبحت دمي ولم تتورعـي

وزعمت أن تصلي بعـامٍ قـابـلٍ

 

هيهات أن أبقى إلى أن ترجعـي

أبديعة الحسن التي في وجهـهـا

 

دون الوجه علامة لـلـمـبـدع

ما كان ضرك لو غمزت بحاجـبٍ

 

يوم التفرق أو أشرت بإصـبـع

وتيقني إنـي بـحـبـك مـغـرم

 

ثم اصنعي ما شئت بي أن تصنعي

 

وقال العماد أيضاً: أنشدني هذين البيتين وزعم أنه أبتكر معناهما ولم يسبق إليه، وهما:

تردي الكتائب كتبه فإذا انبـرت

 

لم تدر أنفذ أسطراً أم عسكـرا

لم يحسن الإتراب فوق سطورها

 

إلا لأن الجيش يعقـد عـثـيرا

 

وهذان البيتان من جملة قصيدة ولقد أبدع فيهما. وفي معنى تشبيه القلم بالجيش قول بعضهم:

قوم إذا أخذوا الأقلام عن غضب

 

ثم استمدوا بها ماء المـنـيات

نالوا بها من أعاديهم وإن بعـدوا

 

ما لم ينالوا بحد المشـرفـيات

 

قلت: ومعنى البيت الأول ينظر إلى قول أبي تمام الطائي في مدح محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم:

هززت أمير المؤمنين محمداً

 

فكان ردينياً وأبيض منصـلا

فما إن تبالي إذ تجهـز رأيه

 

إلى ناكث أن لا تجهز جحفلا

 

ثم إني وجدت معنى البيت الثاني للأستاذ أبي إسماعيل الحسين بن علي المنشئ الطغرائي المقدم ذكره وهو من جملة قصيدة يمدح بها نظام الملك:

إذا ما دجا ليل العجـاجة لـم يزل

 

بأيديهم جمرٌ إلى الهند منسـوب

عليها سطور الضرب يعجمها القنا

 

صحائف يغشاها من النقع تتريب

 

ومن شعره السائر:

يضحي يجانبي مجانبة العـدا

 

ويبيت وهو إلى الصباح نديم

ويمر بي يخشى الرقيب فلفظه

 

شتمٌ وغنج لحاظه تـسـلـيم

 

وله في غلام لسبته نحلة في شفته:

بأبي من لسبتـه نـحـلةٌ

 

ألمت أكرم شيء وأجـل

أثرت لسبتهـا فـي شـفةٍ

 

ما براها الله إلا للقـبـل

حسبت أن بفيه بـيتـهـا

 

إذا رأت ريقته مثل العسل

ولولا خوف الإطالة لذكرت له أشياء بديعة.


وتوفي بمدينة حمص في شعبان سنة إحدى، وقيل اثنتين وثمانين وخمسمائة، والثاني ذكره في السيل والذيل والأول أصح، رحمه الله تعالى، وقد قارب ستين سنة.


وتوفي الشريف ابن عبيد الله المذكور بالموصل سنة ثلاث وستين وخمسمائة، رحمه الله تعالى، وكان رئيساً جواداً كثير الإحسان جم الإفضال، وله شعر فمنه قوله:

قالوا سلا، صـدقـوا عـن

 

السلوان ليس عن الحبـيب

قالـوا فـلـم تـرك الـزيا

 

رة؟ قلت من خوف الرقيب

قالوا وكيف تـعـيش مـع

 

هذا؟ فقلت من العـجـيب

 

وذكره عماد الدين في كتاب الخريدة وبالغ في الثناء عليه، ثم قال: وسمعت ببغداد أبياتاً يغنى بها فنسبها بعض الشاميين إلى الشريف ضياء الدين المذكور، منها:

يا بانة الوادي التي سفكت دمي

 

بلحاظها بل يا فتـاة الأجـرع

لي أن أبثَّ إليك ما ألقـاه مـن

 

ألم الهوى وعليك أن لا تسمعي

كيف السبيل إلى تنـاول حـاجة

 

قصرت يدي عنها كزند الأقطع