شرف الدين ابن أبي عصرون

أبو سعد عبد الله بن أبي السَّريِّ محمد بن هبة الله بن مطهّر بن علي بن أبي عُصرون ابن أبي السَّريِّ التميمي الحديثي ثم الموصلي، الفقيه الشافعي الملقب شرف الدين؛ كان من أعيان الفقهاء وفضلاء عصره، وممن سار ذكره وانتشر أمره. قرأ في صباه القرآن الكريم بالعشر على أبي الغنائم السُّلمي السّروجي والبارع أبي عبد الله ابن الدباس وأبي بكر المزرفي وغيرهم. وتفقه أولاً على القاضي المرتضى أبي محمد عبد الله بن القاسم الشهرزوري - المذكور قبله - وعلى أبي عبد الله الحسين بن خميس الموصلي، ثم على أسعد الميهني ببغداد، وأخذ الأصول عن أبي الفتح ابن برهان الأصولي، وقرأ الخلاف، وتوجه إلى مدينة واسط وقرأ على قاضيها الشيخ أبي علي الفارقي - المذكور في حرف الحاء - وأخذ عنه فوائد المهذب، ودرس بالموصل في سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وأقام بسنجار مدة ثم انتقل إلى حلب في سنة خمس وأربعين، ثم قدم دمشق لما ملكها الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي في صفر سنة تسع وأربعين وخمسمائة، ودرس بالزاوية الغربية من جامع دمشق وتولى أوقاف المساجد، ثم رجع إلى حلب، وأقام بها وصنف كتباً كثيرة في المذهب، منها صفوة المذهب من نهاية المطلب في سبع مجلدات، وكتاب الانتصار في أربع مجلدات، وكتاب المرشد في مجلدين، وكتاب الذريعة في معرفة الشريعة وصنف التيسير في الخلاف أربعة أجزاء، وكتاباً سماه ما أخذ النظر ومختصراً في الفرائض وكتاباً سماه الإرشاد المغرب في نصرة المذهب ولم يكمله، وذهب فيما نهب له بحلب. واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به، وتعين بالشام وتقدم عند نور الدين صاحب الشام وبنى له المدارس بحلب وحماة وحمص وبعلبك وغيرها، وتولى القضاء بسنجار ونصيبين وحران وغيرها من ديار بكر، ثم عاد إلى دمشق في سنة سبعين وخمسمائة، وتولى القضاء بها في سنة ثلاث وسبعين عقيب انفصال القاضي ضياء الدين أبي الفضائل القاسم بن تاج الدين يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري - حسبما شرحته في ترجمة القاضي كمال الدين أبي الفضل محمد الشهرزوري.

ثم عمي في آخر عمره قبل موته في عشر سنين، وابنه محيي الدين محمد ينوب عنه وهو باق على القضاء، وصنف جزءاً لطيفاً في جواز قضاء الأعمى، وهو على خلاف مذهب الشافعي. ورأيت في كتاب الزوائد تأليف أبي الحسين العمراني صاحب كتاب البيان وجهاً أنه يجوز، وهو غريب لم أره في غير هذا الكتاب. ووقع لي كتاب جميعه بخط السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، قد كتبه من دمشق إلى القاضي الفاضل وهو بمصر وفيه فصول من جملتها حديث الشيخ شرف الدين المذكور، وما حصل له من العمى، وأنه يقول: إن قضاء الأعمى جائز، وإن الفقهاء قالوا: إنه غير جائز، فتجتمع بالشيخ أبي الطاهر بن عوف الاسكندراني وتسأله عما ورد من الأحاديث في قضاء الأعمى: هل يجوز أم لا؟ وبالجملة فلا شك في فضله. وقد ذكره الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في تاريخ دمشق، وذكره العماد الكاتب في كتاب الخريدة وأثنى عليه، وقال: ختمت به الفتاوى، وذكر له شيئاً من الشعر، وأنشدني بعض المشايخ قال: سمعته كثيراً ما ينشد، ولا أعلم هل هو له أم لا، وذكرهما العماد الكاتب في الخريدة:

 

أؤمِّل أن أحيا وفي كلِّ ساعةٍ

 

تمرُّ بي الموتى تهزُّ نعوشها

وهل أنا إلا مثلهم غير أنَّ لي

 

بقايا ليالٍ في الزمان أعيشها

 

وأورد له أيضاً في الخريدة:

أؤمل وصلاً من حبيبٍ وإنني

 

على ثقةٍ عما قليل أفارقـه

تجارى بنا خيل الحمام كأنما

 

يسابقني نحو الردى وأسابقه

فيا ليتنا متنا معاً ثم لـم يذق

 

مرارة فقدي لا ولا أنا ذائقه

 

وأورد له أيضاً:

يا سائلي كيف حالي بعد فرقـتـه

 

حاشاك مما بقلبي مـن تـنـأيكـا

قد أقسم الدمع لا يجفوا الجفون أسىً

 

والنوم لازهارها حتـى الأقـيكـا

 

وأورد له أيضاً:

وما الدهر إلا ما مضى وهو فائتٌ

 

وما سوف يأتي وهو غير محصل

وعيشك فيما أنـت فـيه فـإنـه

 

زمان الفتى من مجمل ومفصـل

 وكانت ولادته يوم الاثنين الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة بالموصل. وتوفي ليلة الثلاثاء الحادية عشرة من شهر رمضان سنة خمس وثمانين وخمسمائة بمدينة دمشق ودفن في مدرسته التي أنشأها داخل البلد، وهي معروفة به، وزرت قبره مراراً، رحمه الله تعالى.

ولما توفي القاضي ورد من القاضي الفاضل تعزية فيه جواباً عن كتاب ورد عليه بذلك والتعزية، وصل كتاب الذات الكريمة - جمع الله شملها وسر بها أهلها ويسر إلى الخيرات سبلها وجعل في ابتغاء رضوانه قولها وفعلها - وفيه زيادة هي نقص الإسلام، وثلم في البرية يتجاوز رتبة الانثلام إلى الانهدام، وذلك ما قضاه الله وقدره من وفاة الإمام شرف الدين بن أبي عصرون رحمه لله تعالى، وما حصل بموته من نقص الأرض من أطرافها، ومن مساءة أهل الملة ومسرة أهل خلافها، فلقد كان علماً للعلم منصوباً، وبقية من بقايا السلف الصالح محسوباً.

والعلم بالشام زرعه وكل من انتفع فعليه كان وإليه ينسب نفعه، رضي الله عنه وأرضاه، ونضح بماء الرحمة مثواه وما مات من أبقى تلك التصانيف التي هي المعنى المغني، بل ما مات من ولده المحيي، فإنه والله لآثاره ولعلمه المحيي، والحضرة تنوب عني في تعزيته، والقيام بحق تسليته، وقد ساءتني الغيبة عن مشهده، وتغبير القدم وراء سريره والتوسل إلى الله في ساعة مقدمه، ولقد علم الله اغتمامي لفقد حضرته، واستيحاشي لخلو الدنيا من بركته، واهتمامي بما عدمت من النصيب الموفور كان من أدعيته، وما مات بحمد الله حتى أحرز غيبته بأولاد كرام بررة، وأنشأ طلبةً للعلم نقلة وللمدارس عمرة، وحتى بنى لله المدارس والمساجد، وأحيا نهاره وليله بين راكع وساجد، فهو حيٌ لمجده، وإنما نحن الموت بفقده، وتعذر عليه أن ينتقل بقايا الخير وأعقاب السلف وأن يفارق من ليس لنا منه لولا خلفه خلف.

والحديثي: بفتح الحاء المهملة وكسر الدال المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها ثاء مثلثة، هذه النسبة إلى حديثة الموصل، وهي بليدة على دجلة بالجانب الشرق قرب الزاب الأعلى، وهي غير الحديثة التي يقال لها حديثة النورة، وهي قلعة حصينة على فراسخ من الأنبار في وسط الفرات، والماء محيط بها وحديثة الموصل هي آخر حدّ أرض السواد في الطول، وقول الفقهاء في كتبهم أرض السواد ما بين حديثة الموصل إلى عبَّادان طولاً، ومن القادسية إلى حلوان عرضاً، يريدون به هذه الحديثة لا حديثة الفرات.