المرتضى بن الشهرزوري

أبو محمد عبد الله بن القاسم بن المظفر بن عليّ بن القاسم الشّهرزوريّ المنعوت بالمرتضى، والد القاضي كمال الدين - وسيأتي ذكر ولده ووالده إن شاء الله تعالى -؛ كان أبو محمد المذكور مشهوراً بالفضل والدين، وكان مليح الوعظ مع الرشاقة والتجنيس، وأقام ببغداد مدة يشتغل بالحديث والفقه، ثم رجع إلى الموصل وتولى بها القضاء وروى الحديث، وله شعر رائق، فمن ذلك قصيدته التي على طريقة الصوفية ولقد أحسن فيها وهي:

لمـعـت نـارهـم وقـد عـســعـــس الـــلـــي

 

ل ومـــلَّ الـــحـــادي وحـــار الـــدلـــيل

فتـأمـلـتـهـا وفـــكـــري مـــن الـــبـــي

 

ن عـلـيلٌ ولــحـــظ عـــينـــي كـــلـــيل

وفـؤادي ذاك الـــفـــؤاد الـــمـــعـــنـــى

 

وغــرامـــي ذاك الـــغـــرام الـــدخـــيل

ثم قـابـلـتـهـا وقـلــت لـــصـــحـــبـــي

 

هذه الـنـار نــار لـــيلـــى فـــمـــيلـــوا

فرمـوا نـحـوهـا لـحـاظـــاً صـــحـــيحـــا

 

تٍ فــعـــادت خـــواســـئاً وهـــى حـــول

ثم مـالـــوا إلـــى الـــمـــلام وقـــالـــوا

 

خلـــبٌ مـــا رأيت أم تـــــــخـــــــييل

فتـجـنـبـتـــهـــم ومـــلـــت إلـــيهـــا

 

والـهـوى مـركـبـي وشــوقـــي الـــزمـــيل

ومـعـي صـاحـــب أتـــى يقـــتـــفـــي الآ

 

ثار والـحـب شـرطـــه الـــتـــطـــفـــيل

وهـي تـعـلـو ونـحـــن نـــدنـــو إلـــى أن

 

حجـزت دونــهـــا طـــلـــولٌ مـــحـــول

فدنـونـا مـن الـطـــلـــول فـــحـــالـــت

 

زفـــراتٌ مـــن دونـــهـــا وغـــلــــيل

قلـت: مـن بـــالـــديار؟ قـــالـــوا: جـــريحٌ

 

وأســـيرٌ مـــكـــبـــلٌ وقـــتـــــــيل

ما الـذي جـئت تـبـتـغـي؟ قـــلـــت: ضـــيف

 

جاء يبـغـي الـــقـــرى فـــأين الـــنـــزول

فأشـارت بـالـرحــب دونـــك فـــاعـــقـــر

 

ها فـمـا عـنـــدنـــا لـــضـــيفٍ رحـــيل

من أتـانـا ألـقـى عـصـا الــســـير عـــنـــه

 

قلـت: مـن لـي بـهـــا وأين الـــســـبـــيل؟

فحـطـطـــنـــا إلـــى مـــنـــازل قـــومٍ

 

صرعـتـهـم قـبـل الـمــذاق الـــشـــمـــول

درس الـوجـــد مـــنـــهـــم كـــل رســـمٍ

 

فهـو رســمٌ والـــقـــوم فـــيه حـــلـــول

منـهـم مـن عـفـا ولـم يبـــق لـــلـــشـــك

 

وى ولا لـــلـــدمـــوع فـــيه مـــقــــيل

ليس إلا الأنـفـــاس تـــخـــبـــر عـــنـــه

 

وهـو عـنـــهـــا مـــبـــرَّأ مـــعـــزول

ومـــن الـــقـــوم مـــن يشـــير إلـــى وج

 

دٍ تـبـقَّـى عـلـيه مـــنـــه الـــقـــلـــيل

ولـــكـــلٍ رأيت مـــنـــه مـــقـــامـــاً

 

شرحـه فـي الـكــتـــاب مـــمـــا يطـــول

قلـت أهـل الـهـــوى ســـلامٌ عـــلـــيكـــم

 

لي فـؤادٌ عـنـكـم بــكـــم مـــشـــغـــول

وجـفـونٌ قـد أقـرحــتـــهـــا مـــن الـــدم

 

ع حـثـيثـــاً إلـــى لـــقـــاكـــم ســـيول

لم يزل حــافـــز مـــن الـــشـــوق يحـــدو

 

ني إلـيكـــم والـــحـــادثـــات تـــحـــول

واعتذاري ذنبٌ فهل عند من يعلم عذري في ترك عذري قبول

 

 

جئت كي أصطلي فهل لي إلى نا

 

ركـــم هـــذه الـــغـــداة ســـبــــــيل

فأجـابـت شـواهـد الـــحـــال عـــنـــهـــم

 

كل حـدٍّ مـــن دونـــهـــا مـــفـــلـــول

لا تروقنّك الرياض الأنـيقـا

 

ت فمن دونها ربًى ودحـول

كم أتاها قومٌ على غـرّةٍ مـن

 

ها وراموا أمراً فعزًّ الوصول

وقفوا شاخصين حتـى إذا مـا

 

لاح للوصل غرّةٌ وحـجـول

وبدت راية الوفـا بـيد الـوج

 

د ونادى أهل الحقائق جولـوا

أين من كان يدَّعينا فـهـذا ال

 

يوم فيه صبغ الدعاوى يحول

حملوا حملة الفحـول ولايص

 

رع يوم اللقاء إلا الفـحـول

بذلوا أنفساً سخت حين شحَّـت

 

بوصالٍ واستصغر المبـذول

ثم غابوا من بعد ما اقتحموهـا

 

بين أمواجها وجاءت سـيول

قذفتهم إلى الرسـوم فـكـلٌّ

 

دمه في طلولها مـطـلـول

نارنا هذه تضيء لـمـن يس

 

ري بليلٍ لكنـهـا لا تـنـيل

منتهى الحظ ما تزوّد منها اللح

 

ظ والمدركـون ذاك قـلـيل

جاءها من عرفت يبغي اقتباساً

 

وله البسط والمنى والـسُّـول

فتعالت عن المنـال وعـزَّت

 

عن دنوٍّ إليه وهـو رسـول

فوقفنا كما عـهـدت حـيارى

 

كلُّ عزمٍ من دونها مخـذول

ندفع الوقت بالرجاء ونـاهـي

 

ك بقلبٍ غذاؤه الـتـعـلـيل

كلما ذاق كـأس يأسٍ مـريرٍ

 

جاء كأسٌ من الرجا معسـول

فإذا سوَّلت له النفـس أمـراً

 

حيد عنه وقيل: صبرٌ جمـيل

هذه حالنا وما وصل الـعـل

 

م إليه، وكلُّ حـال تـحـول

 

وإنما أثبت هذه القصيدة بكاملها لأنها قليلة الوجود وهي مطلوبة. وحكي عن بعض المشايخ أنه رأى في النوم قائلاً يقول: ما قيل في الطريق مثل القصيدة الموصلية، يعني هذه.


وأنشد له مجد العرب العامري دوبيت:

يا قلب إلام لا يفـيد الـنـصـح

 

دع مزحك كم جنى عليك المزح

ما جارحة فيك عداهـا جـرح

 

ما تشعر بالخمار حتى تصحـو

 

وأورد له العماد الكاتب في الخريدة قوله:

فعاودت قلبي أسأل الصبـر وقـفةً

 

عليها فلا قلبي وجدت ولا صبـري

وغابت شموس الوصل عني وأظلمت

 

مسالكه حتى تحيرت فـي أمـري

فما كان إلا الخطف حتى رأيتـهـا

 

محكّمة والقلب في ربـقة الأسـر

 

وله من أبيات:

وبانوا فكم دمعٍ من الأسر أطلقوا

 

نجيعاً وكم قلبٍ أعادوا إلى الأسر

فلا تنكروا خلعي عذاري تأسُّفـاً

 

عليهم فكم أوضحت عندكم عذري

 

ومن شعره أيضاً:

بقلبي منهـم عـلـق

 

ودمعي فيهم علـق

وعندي منهم حـرق

 

لها الأحشاء تحتـرق

ونحن ببابهـم فـرق

 

أذاب قلوبنا الفـرق

وما تركوا سوى رمقٍ

 

فليتهم له رمـقـوا

فلا وصلٌ ولا هجـرٌ

 

ولا نــومٌ ولا أرق

ولا يأسٌ ولا طـمـعٌ

 

ولا صبرٌ ولا قلـق

فليتهم وقد قطـعـوا

 

ولم يُبقوا عليَّ بَقـوا

أأفنى في محبتـهـم

 

وطيب محبتي عبـق

كمثل الشمع يمتع من

 

ينادمـه ويمَّـحـق

 

وله أيضاَ:

يا ليل مـا جـئتـكـم زائراً

 

إلا وجدت الأرض تطوى لي

ولا ثنيت العزم عن بابـكـم

 

إلا تـعـثـرت بـأذيالـي

وغالب شعره على هذا الأسلوب.

وكانت ولادته في شعبان سنة خمس وستين وأربعمائة، وتوفي في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وخمسمائة بالموصل، ودفن في التربة المعروفة بهمرحمه الله تعالى، وذكر عماد الدين الكاتب الأصبهاني في كتاب الخريدة في ترجمة المرتضى المذكور قال السمعاني: إنه سمع أن القاضي أبا محمد، يعني المرتضى المذكور، توفي بعد سنة عشرين وخمسمائة، والله أعلم.