عبد الله بن المعتز

أبو العباس عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي؛ أخذ الأدب عن أبي العباس المبرد وأبي العباس ثعلب وغيرهما، كان أديباً بليغاً شاعراً مطبوعاً مقتدراً على الشعر قريب المأخذ سهل اللفظ جيد القريحة حسن الإبداع للمعاني مخالطاً للعلماء والأدباء معدوداً من جملتهم، إلى أن جرت له الكائنة في خلافة المقتدر، واتفق معه جماعة من رؤساء الأجناد ووجوه الكتّاب فخلعوا المقتدر يوم السبت لعشر بقين، وقيل لسبعٍ بقين من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين، وبايعوا عبد الله المذكور ولقبوه المرتضي بالله، وقيل المنصف بالله، وقيل الغالب بالله، وقيل الراضي بالله، وأقام يوماً وليلة، ثم إن أصحاب المقتدر تحزبوا وتراجعوا وحاربوا أعوان ابن المعتز وشتتوهم، وأعادوا المقتدر إلى دسته، واستخفى ابن المعتز في دار أبي عبد الله الحسين بن عبد الله بن الحسين المعروف بابن الجصاص التاجر الجوهري، فأخذه المقتدر وسلمه إلى مؤنس الخادم الخازن فقتله وسلمه إلى أهله ملفوفاً في كساء، وقيل إنه مات حتف أنفه وليس بصحيح بل خنقه مؤنس، وذلك يوم الخميس ثاني شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومائتين، ودفن في خرابة بإزاء داره، رحمه الله تعالى.
ومولده لسبعٍ بقين من شعبان سنة سبع وأربعين، وقال سنان بن ثابت: في سنة ست وأربعين ومائتين، والقضية مشهورة وفيها طول، وهذا خلاصتها.

ثم قبض المقتدر على ابن الجصاص المذكور وأخذ منه مقدار ألفي ألف دينار، وسلم له بعد ذلك مقدار سبعمائة ألف دينار، وكان فيه غفلة وَبَله، وتوفي يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمس عشرة وثلثمائة.

ولابن المعتز من التصانيف كتاب الزهر والرياض، وكتاب البديع، وكتاب مكاتبات الإخوان بالشعر، وكتاب الجوارح والصيد، وكتاب السرقات، وكتاب أشعار الملوك، وكتاب الآداب، وكتاب حلى الأخبار، وكتاب طبقات الشعراء، وكتاب الجامع في الغناء، وكتاب فيه أرجوزة في ذم الصبوح.

ومن كلامه: البلاغة البلوغ إلى المعنى، ولم يطل سفر الكلام، وكان يقول: لو قيل لي: ما أحسن شعر تعرفه؟ لقلت: قول العباس بن الأحنف:

قد سحب الناس أذيال الظنون بنا

 

وفرّق الناس فينا قولهم فِرقـا

فكاذبٌ قد رمى بالظنّ غيركـم

 

وصادقٌ ليس يدري أنه صدقا

 

ورثاه علي بن محمد بن بسام الشاعر - الآتي ذكره - بقوله:

لله درُّك من مـيت بـمـضـيعة

 

ناهيك في العلم والآداب والحسب

ما فيه لوٌّ ولا لولا فتـنـقـصـه

 

وإنما أدركـتـه حـرفة الأدب

 

ولعبد الله المذكور أشعار رائقة وتشبيهات بديعة، فمن ذلك قوله:

سقى المطيرة ذات الظل والشجـر

 

ودير عبدون هطّالٌ من المـطـر

فطالما نبّهتني للصّـبـوح بـهـا

 

في غرّة الفجر والعصفور لم يطر

أصوات رهبان ديرٍ في صلاتهـم

 

سود المدارع نعارين في السحـر

مزنّرين على الأوساط قد جعـلـوا

 

على الرؤوس أكاليلاً من الشّعـر

كم فيهم من مليح الوجه مكتـحـل

 

بالسحر يطبق جفنيه علـى حَـور

لاحظته بالهوى حتى استقـاد لـه

 

طوعاً وأسلفني الميعاد بالنـظـر

وجاءني في قميص الليل مستـتـراً

 

يستعجل الخطو من خوف ومن حذر

فقمت أفرش خدّي في الطريق لـه

 

ذلاًّ وأسحب أذيالي عـلـى الأثـر

ولاح ضوء هلال كاد يفضـحـنـا

 

مثل القلامة قد قدّت من الظُّـفـر

وكان ما كان ممـا لـسـت أذكـره

 

فظن خيراً ولا تسأل عن الخـبـر

       

 

ومن ظريف شعره قوله، ولم أجدها في ديوانه، ولكن الرواة أطبقوا على أنها له، والله أعلم:

ومقَرطَقٍ يسعى إلى النّدمـاء

 

بعقـيقةٍ فـي درّةٍ بـيضـاء

والبدر في أفق السماء كدرهم

 

ملقىً على ياقـوتةٍ زرقـاء

كم ليلةٍ قد سرّني بمـبـيتـه

 

عندي بلا خوفٍ من الرّقبـاء

ومهفهفٍ عقد الشّراب لسانـه

 

فحديثه بالـرّمـز والإيمـاء

حرّكته بيدي وقلت له انتـبـه

 

يا فرحة الخلطاء والنّـدمـاء

فأجابني والسّكر يخفض صوته

 

بتلجلجٍ كتلجلـج الـفـأفـاء

إني لأفهم ما تقـول وإنـمـا

 

غلبت عليَّ سلافة الصّهبـاء

دعني أفيق من الخمار إلى غدٍ

 

واحكم بما تختار يا مـولائي

 

وله في الخمرة المطبوخة، وهو معنى بديع وفيه دلالة على أنه كان حنفي المذهب:

خليليَّ قد طاب الشّراب المـورَّد

 

وقد عدت بعد النّسك والعود أحمد

فهاتا عقاراً في قميص زجـاجةٍ

 

كياقـوتةٍ فـي درَّةٍ تـتـوقّـد

يصوغ عليها الماء شبّـاك فـضّةٍ

 

له حلقٌ بيضٌ تحـلُّ وتـعـقـد

وقتني من نار الجحيم بنفـسـهـا

 

وذلك من إحسانها ليس يجـحـد

 

وكان ابن المعتز شديد السمرة مسنون الوجه يخضب بالسواد.
 

ورأيت في بعض المجاميع أن عبد الله بن المعتز المذكور كان يقول:أربعة من الشعراء سارت أسماؤهم بخلاف أفعالهم، فأبو العتاهية سار شعره بالزهد وكان على الإلحاد، وأبو نوّاس سار شعره باللواط وكان أزنى من قرد، وأبو حكيمة الكاتب سار شعره بالعنّة وكان أهب من تيس، ومحمد بن حازم سار شعره بالقناعة وكان أحرص من كلب.


وقد رويت لابن حازم خبراً يخالف حكاية ابن المعتز ويوافق شعره، وذلك أنه كان جار سعيد بن حميد الكاتب الطوسي، فهجاه لأمر كان بينهما، فبلغ سعيداً هجوه، فأغضى عنه مع القدرة. ثم إن محمداً ساءت حاله فتحول عن جواره، فبلغ ابن حميد ذلك، فبعث إليه عشرة آلاف درهم وتخوت ثياب وفرساً بآلته ومملوكاً وجارية، وكتب إليه " ذو الأدب يحمله ظرفه على نعت الشيء بغير هيئته، وتبعثه قدرته على وصفه بخلاف حليته، ولم يكن ما شاع من هجائك فيَّ جارياً إلا هذا المجرى، وقد بلغني من سوء حالك وشدّة خلّتك ما لا غضاضة به عليك مع كبر همتك وعظم نفسك، ونحن شركاء فيما ملكنا ومتساوون فيما تحت أيدينا، وقد بعثت إليك بما جعلته وإن قلَّ: استفتاحاً لما بعده وإن جلَّ ". فردَّ ابن حازم جميعه ولم يقبل منه شيئاً وكتب إليه:

 

وفعلت بي فعل المهلَّب إذ

 

غمر الفرزدق بالندى الدَّثر

فبعثت بالأموال ترغبـنـي

 

كلاّ وربِّ الشفع والوتـر

لا ألبس النعماء من رجـلٍ

 

ألبسته عاراً على الدَّهـر

 

وهذا دليل على قناعته وحسن صبره واحتماله الإضاقة.


وهذا سعيد بن حميد يكنّى أبا عثمان، وكان كاتباً شاعراً مترسلاً عذب الألفاظ مقدماً في صناعته جيد السرقة، حتى قال بعض الفضلاء: لوقيل لكلام سعيد وشعره: ارجع إلى أهلك، لما بقي معه منه شيء. وكان يدعي أنه من أولاد ملوك الفرس، وله من الكتب: كتاب " انتصاف العجم من العرب "، ويعرف بالتسوية وله ديوان رسائل، وديوان شعر صغير.


والمطيرة: بفتح الميم وكسر الطاء المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعد الراء المفتوحة هاء، وهي قرية من نواحي سرَّ من رأى.


وعبدون الذي يضاف الدير إليه، فيقال " دير عبدون "، هو ابن مخلد وهو أخو الوزير صاعد بن مخلد، وإنما أضيف إليه لأنه كان كثير التردد إليه، والمقام فيه، والعناية بعمارته، وهو إلى جنب المطيرة، ودير عبدون أيضاً: قرب جزيرة ابن عمر، بينهما دجلة، وقد خرب الآن، وكان متنزّهاً لأهلها. وقوله " ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا "، مأخوذ من قول عمرو بن قميئة في صفة الهلال:

 

كأن ابن مزنتهاً جـانـحـاً

 

فسيط لدى الأفق من خنصر

والفسيط: قلامة الظفر