عبد الله بن الزبير

أبو خبيب عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وأمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم ذات النطاقين-وقد تقدم ذكرها مع أبيها؛ وهو أول مولود ولد بالمدينة من المسلمين بعد الهجرة. بويع له بمكة سنة أربع وستين بعد أن أقام الناس بغير خليفة جماديين وأياماً من رجب، وبايعه أهل العراق، وولّى أخاه مصعباً البصرة، وولّى عبد الله بن مطيع الكوفة فوثب المختار بن أبي عبيد على الكوفة فأخذها، ووجه شميطاً إلى البصرة فقتله مصعب، وسار مصعب إلى المختار فقتله في سنة سبع وستين.

وبنى ابن الزبير الكعبة وادخل فيها الحجر وجعل لها بابين مع الأرض يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر، وخلّق داخل الكعبة وخارجها فكان أول من خلّقها وكساها القباطيّ.

وولى أخاه عبيدة بن الزبير المدينة، وأخرج مروان بن الحكم وبنيه منها فصار إلى الشام ولم يزل يقيم للناس الحج من سنة أربع وستين إلى سنة اثنتين وسبعين، فلما ولي عبد الملك منع أهل الشام من الحج من أجل ابن الزبير: كان يأخذ الناس بالبيعة له إذا حجوا، فضج الناس لما منعوا الحج، فبنى عبد الملك في بيت المقدس الصخرة، فكان الناس يحضرونها يوم عرفة ويقفون عندها، ويقال إن ذلك سبب التعريف من مسجد بيت المقدس ومساجد الأمصار. وذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن، أن أول من سنّ التعريف في مساجد الأمصار عبد الله بن عباس؛ وذكر أبو عمر الكندي إن عبد العزيز بن مروان أول من سنّ التعريف بمصر في الجامع بعد العصر.

ثم بعد ذلك بعث عبد الملك الحجاج إلى عبد الله بن الزبير، وسبب ذلك أن عبد الملك لما قتل مصعباً وابنه عيسى وأراد الرجوع إلى الشام قام إليه الحجاج فقال: يا أمير المؤمنين أني رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته فابعثني إليه وولّني عليه، فبعثه في جيش من أهل الشام كثيف، فنزل الطائف، وكان يبعث البعوث فيقاتلون ابن الزبير، ففي ذلك كله ترجع خيل الحجاز بالظفر، ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم عليه وحصاره، وأخبره أن شوكته قد كلّت، فأذن له في ذلك، فلما دخل ذو القعدة رحل الحجاج من الطائف حتى نزل بئر ميمون وحصر ابن الزبير. وأمدّ عبد الملك الحجاج لهلال ذي الحجة، ولم يطف بالبيت ولم يصل إليه، وكان يلبس السلاح ولا يمسّ النساء ولا الطيب إلى أن قتل ابن الزبير. ولم يحج ابن الزبير ولا أصحابه في هذه السنة لأنهم لم يقفوا بعرفة، وحجّ الحجاج في هذه السنة ثم حصر ابن الزبير ثمانية أشهر، فتفرق عامة من كان معه وخرجوا إلى الحجاج في الأمان حتى بلغ عدة المستأمنة عشرة آلاف، وكان في جملتهم ابنا عبد الله بن الزبير، أخذا أماناً لنفسيهما.

فلما رأى عبد الله بن الزبير ما رأى من ولده وأصحابه دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما فقال: يا أمه، قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبقَ إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع إلا صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: والله يا بنيّ أنت أعلم بنفسك؛ إن كنت تعلم أنك على حق فامضِ له فقد قتل عليه أصحابك، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن قتل معك، وإن قلت إني على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين. فدنا ابن الزبير فقبّل رأسها وقال: هذا رأيي ولكن أحببت أن أعلم رأيك فزدتني بصيرة، فانظري يا أماه إني مقتول من يومي هذا فلا يشتدّ حزنك وسلمي لأمر الله فإن ابنك لم يتعمد اتيان منكر ولا عمل بفاحشة، ولم يجر في حكم ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، اللهم إني لا أقول هذا تزكية لنفسي ولكن تعزية لأمي لتسلو عني. فقالت أمه: اني لأرجو أن يكون عزائي فيك حسناً؛ اخرج حتى انظر إلى ما يصير إليه أمرك، ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل وذلك التحنث والظمأ في الهواجر بالمدينة ومكة وبره بأبيه وبي؛ اللهم قد أسلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الشاكرين الصابرين. ثم دنا فتناول يدها فقبّلها فقالت: هذا وداع فلا تبعد. وكان عليه درع فلما عانقها وجدت مس الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد، قال: ما لبستها إلا لأشدّ منك، قالت: فإنها لا تشدّ مني، فنزعها ثم أدرج كميه وأدخل أسفل قميصه وجبّة خز كانت عليه من أسفل المنطقة وخرج، وقد كبّر الناس، فحمل عليهم فلم يبقَ بين يديه أحد، وانهزم الناس ووقف بالأبطح لا يدنو منه أحد وكان الحجاج وطارق بن عمرو جميعاً في ناحية الأبطح إلى المروة والناس لكل طائفة منهم باب، فمرة يحمل عبد الله في هذه ومرة في هذه وكأنه أسد في اجمة، فلما كان يوم الثلاثاء أذّن المؤذّن فتقدم فصلّى بالناس، فلما فرغ من الصلاة أمر أهله وحضهم على القتال ثم قال لهم في جملة كلامه: ألا من كان سائلاً عني فاني في الرعيل الأول، احملوا على بركة الله وعونه، ثم حمل حتى بلغ بهم الحجون فرمي بآجرّة فأرعش لها ودمي وجهه، فلما وجد سخونة الدم على وجهه ولحيته قال:

فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا

 

ولكن على أقدامنا تقطر الدِّمـا

 

وصاحت مولاة لآل الزبير مجنونة: وا أمير المؤمنيناه! وكانت رأته حيث هوى وكان قتله يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وقيل جمادى الآخرة، وكان سنه اثنتين وسبعين سنة، رضي الله عنه؛ وجاء الخبر إلى الحجاج فسجد وجاء هو وطارق حتى وقفا عليه فقال طارق: ما ولدت النساء اذكر من هذا، فقال الحجاج: أتمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين؟ قال: نعم، هو أعذر لنا ولولا هذا ما كان لنا عذر بالمحاصرة وهو في غير خندق ولا حصن ولا منعة منذ سبعة أشهر ينتصف منا بل يفضل علينا في كل ما التقينا، فبلغ كلامهما عبد الملك فصوّب رأي طارق.


وحكى الشعبي قال: حضرت عبد الله بن الزبير وهو يخطب بمكة فقال في آخر خطبته: أما والله لو كانت الرجال تصرف لصرفتكم تصريف الذهب بالفضة، أما والله لوددت أن لي بكل رجلين منكم رجلاً من أهل الشام بل بكل خمسة بل بكل عشرة، فما بكم يدرك الثأر ولا بكم يمنع الجار. فقام إليه رجل من أهل البصرة فقال: ما نجد لنا ولك مثلاً إلا قول الأعشى:

 

علقتها عرضاً وعلـقـت رجـلاً

 

غيري وعلق أخرى غيرها الرجل

علقناك وعلقت أهل الشام، وعلق أهل الشام بني مروان فما عسانا أن نصنع؟ قال الشعبي: فما سمعت بجواب أحضر منه ولا أحسن.

ثم دخل الحجاج مكة فبايع من بها من قريش، وبعث برأس ابن الزبير وجماعة إلى المدينة فنصبوا بها ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان فبعث عبد الملك برأس ابن الزبير إلى عبد الله بن خازم الأسلمي وهو بخراسان والٍ من جهة ابن الزبير، وكتب إليه عبد الملك يدعوه إلى طاعته ويقول له: بايعني حتى أجعل لك خراسان طعمة سبع سنين، فقال ابن خازم لرسوله: لولا أن الرسل لا تقتل لأمرت بضرب عنقك، ولكنَ كل كتاب صاحبك، فأكله، ثم أخذ الرأس فغسله وطيّبه وكفنه ودفنه، وقيل: إنه بعث به إلى آل الزبير إلى المدينة فدفنوه مع جثته، ثم قال:

أعيش زبيريَّ الحياة فإن أمت

 

فإني موصٍ هامتي بالتزبّر

ثم إن عبد الملك بن مروان ولّى الحجاج مكة واليمن واليمامة فنقض الحجاج بنيان الكعبة الذي بناه ابن الزبير لأنه كان تخلخل من حجارة المنجنيق، فأعاده إلى بناء قريش الأول. ولما توفي بشر بن مروان كتب عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف وهو بالمدينة بوفاته فأقبل في اثني عشر راكباً على النجائب حتى دخل الكوفة فجأة فبدأ بالمسجد فدخله ثم صعد المنبر، وستأتي تتمة الكلام.

وقيل إن عبد الله بن الزبير قال لأمه أسماء: إني لا آمن إن قتلت أن يمثل بي وأصلب، قالت: يا بني إن الشاة إذا ذبحت لم تألم السلخ. وماتت أمه بعده بخمسة أيام ولها مائة سنة رضي الله عنها، وكان سلطانه بالحجاز والعراق تسع سنين واثنين وعشرين يوماً رضي الله عنه.