أبو بكر الصديق

أبو بكر عبد الله بن أبي قحافة - واسمه عثمان - بن عامر، من ولد تيم بن مرة - تيم قريش - يلتقي هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرة بن كعب وهما في القعدد إليه سواء، بين كل واحد منهما وبينه ستة آباء، كان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، ولقبه عتيق، لقب به لجمال وجهه رضي الله عنه، وقيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: أنت عتيق من النار، وسمي صدّيقاً لتصديقه خبر المسرى. وأمه سلمى وتكنى أم الخير بنت صخر وهي بنت عم أبيه.

كان طويلاً آدم خفيف العارضين يخضب بالحنّاء والكتم. بويع له يوم الاثنين الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي بالسل ليلة الثلاثاء، وقيل يوم الجمعة، لتسع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، وسنه ثلاث وستون سنة، وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وتسعة أيام، وغسلته زوجته أسماء ابنة عميس، وصلى عليه عمر رضي الله عنهما، وحمل على سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سرير عائشة رضي الله عنها، وكان من خشبتي ساجٍ منسوج بالليف، وبيع في ميراث عائشة، رضي الله عنها، بأربعة آلاف درهم، فاشتراه مولى لمعاوية وجعله للمسلمين، ويقال إنه بالمدينة، ودفن في حجرة عائشة ورأسه بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان يأخذ من بيت المال في كل يوم ثلاثة دراهم، وكان قال لعائشة: انظري يا بنية ما زاد في مال أبي بكر منذ وليت هذا الأمر فرديه على المسلمين، فنظرت فإذا بكر وقطيفة لا تساوي خمسة دراهم ومجشة، فلما جاء بذلك الرسول إلى عمر قال: رحم الله أبا بكر لقد كلف من بعده تعباً.

وروي أن أبا بكر خرج بعد البيعة ومعه ميزان ورزمة ثياب تحت يده وخرج إلى السوق فقيل له: ما هذا؟ فقال: أكتسب لنفسي وعيالي، فأجمعوا رأيهم وفرضوا له في كل يوم درهماً وثلثي درهم من بيت مال المسلمين.

وأبو بكر رضي الله عنه أول من طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدلالة على نبوته، وسبب ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه كان باليمن في تجارة، ونبِّئ النبي صلى الله عليه وسلم وهو غائب، فنزل أبو بكر رضي الله عنه في طريقه على دير فيه راهب باليمن هو ورفقته، فسألهم الراهب: هل فيكم خطيب؟ قالوا: نعم، وأشاروا إلى أبي بكر رضي الله عنه، فدعاه إليه وحده فقال له الراهب: من أين أنت؟ فقال: من مكة، فقال: هل ظهر بها أحد يدعي النبوة؟ فقال: لا، فقال الراهب: عندي صورة أريكها فإن عرفت أحداً يشبهها فعرفني، فعرض عليه الصورة فقال: هذه صورة رجل يعرف بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقال الراهب: هذا هو النبي المدعو به وهو خاتم الأنبياء، يظفر بأعدائه ويعلو دينه الأديان. فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما عرفنا هذا منه ولا ادعاه ولا عرف بالعلم ولا يحسن الكتابة ولا خالط اليهود والنصارى، فقال الراهب: هذا هو النبي نفسه. وقيل أن الراهب قال لأبي بكر: وأنت الخليفة من بعده على أهل دينه. فرجع أبو بكر من عند الراهب ولم يشعر أحداً من رفقته بما قال له الراهب، فلما قدم مكة قالت له أمه سلمى أم الخير: ما بلغك ما حدث من صديقك محمد؟ زعم أنه نبي نبأه الله وأرسله إلى قومه وكافة الخلق، فقال لها: وأين هو؟ قالت: بجبل حراء، فأسرع أبو بكر رضي الله عنه نحو الجبل فرأه في غار فسلمّ عليه وقال: بلغني أنك ادعيت النبوة والرسالة، فقال له: لست بمدعٍ، وقد فعل الله ذلك بي، قال له: فما الدليل على صدقك؟ قال: هل خرجت علي كذباً؟ فقال: لا والله، غير أن هذا أمر لا يقبل بغير دليل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دليله ما قاله لك الراهب، قال أبو بكر: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، أنا أول متابع لك على هذا الأمر وهو أول من أمّ في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وأول من دعي بخليفة وأول من رقي منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الشعبي: لما ولي أبو بكر الخلافة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها أيها الناس أني وليتكم ولست بخيركم ولكن نزل القرآن فأدّبنا فتأدبنا، وسنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمنا فتعلمنا، وإن أكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور، وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق. إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فسددوني. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين.

ولما تم الأمر لأبي بكر رضي الله عنه ارتدت العرب إلا قليلاً منه، وكان قد تنبأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة: الأسود بن كعب العنسي ومسيلمة الكذاب -واسمه ثمامة بن حبيب - وطليحة الأسدي. فأما الأسود فإنه غلب على صنعاء ونجران إلى عمل الطائف واستطار استطارة الحريق فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بقتله فقتله فيروز الديلمي في منزله، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر بقتله من السماء فأخبر به أصحابه، ثم وصل المخبر بقتله إلى المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أول فتح على أبي بكر رضي الله عنه. كذا ذكره الطبري في تاريخه، وقال أبو بشر الدولأبي إنه قتل في خلافة أبي بكر. وأما مسيلمة وطليحة فإن أمرهما استغلظ، واجتمع على طليحة عوام طيء وأسد وغطفان، وارتدت قبائل العرب إلا قيساً وثقيفاً ومنعوا الزكاة، فأشار الناس على أبي بكر رضي الله عنه بأخذ العرب بالصلاة ومسامحتهم في الزكاة فقال: والله لو منعوني عقالاً أو عناقاً مما كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على ذلك. ثم خرج إلى عبس وذبيان فقاتلهم فانهزموا وعادوا إلى المدينة، ثم سيّر الجيوش لقتال أهل الردة، وعقد أحد عشر لواء على أحد عشر جنداً وسير خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى طليحة ومن تابعه من غطفان، فهزمهم وانهزم طليحة حتى لحق بالشام، وقتل من أصحابه جمع كبير، ثم أسلم طليحة بعد ذلك لمَّا بلغه عن أسد وغطفان، ولم يزل مقيماً في كلب حتى مات أبو بكر رضي الله عنه ثم أتى عمر رضي الله عنه فبايعه ورجع إلى ديار قومه. وسار خالد لقتال بني حنيفة ومسيلمة. وكانت امرأة تعرف بسجاح ابنة الحارث قد تنبأت في بني تغلب وسارت إلى مسيلمة الكذاب فتزوجت به وأقامت عنده ثلاثاً ثم انصرفت إلى قومها، ثم هزم الله بني حنيفة وقتل مسيلمة الكذاب، قتله وحشي قاتل حمزة.

ولما فرغ خالد رضي الله عنه، من أمر اليمامة كتب إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، يأمره بالمسير إلى العراق، فسار وصالح أهل الحيرة على جزية حملها إلى المدينة، وكانت أول جزية حملت إليها. وقال أبو بكر رضي الله عنه لخالد حين بعثه إلى أهل الردة: احرص على الموت توهب لك الحياة، ففتح الأنبار وعين التمر وأنفذ السبي إلى المدينة، وسار إلى دومة الجندل فقتل وسبى، ثم وجه أبو بكر رضي الله عنه الجيوش إلى الشام، وأمر خالداً بالمسير إليها، وفتحت بصرى في خلافته، وهي أول مدينة فتحت بالشام.

وحج بالناس سنة اثنتي عشرة، وهي السنة الثانية من خلافته وولي الأولى عمر رضي الله عنه.

ومات أبو قحافة والد أبي بكر بعد موت أبي بكر رضي الله عنه بسنة، وقيل تسعة أشهر، وذلك في سنة أربع عشرة، وسنه سبع وتسعون سنة. وكان إسلامه يوم فتح مكة، وكان يوم مات أبو بكر رضي الله عنه بمكة، ولم يلِ الخلافة من أبوه حي غير أبي بكر رضي الله عنه.
وهو أول من جمع القرآن الكريم بين اللوحين، وذلك أن المسلمين لما اصيبوا باليمامة خاف أبو بكر، رضي الله عنه، أن يفنى قراء القرآن - وإنما كان في صدور الرجال - فجمعه وجعله بين اللوحين وسمّاه مصحفاً، ولم يزل عنده إلى أن مات، وبقي عند عمر، رضي الله عنه، إلى أن مات، وبقي عند حفصة ابنته.

ولما احتضر أبو بكر رضي الله عنه استخلف على المسلمين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ووصّاه، فكان من وصيته أن قال: هذا ما وصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند آخر عهده من الدنيا وأول عهده بالآخرة؛ إني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بّر وعدل فذاك ظني به ورجائي فيه، وان غيّر وبدّل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرىء ما اكتسب، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.
ووصل الخبر بموت أبي بكر رضي الله عنه إلى الشام وخالد بن الوليد على دمشق يحاصرها، وفي اليوم الثاني من ورود الخبر فتحت دمشق. وكان خالد رضي الله عنه أخفى خبر موته إلى أن فتح دمشق.

واختلفوا في سبب مرضه الذي مات فيه، فقيل: سّمته يهودية، وقيل اغتسل في يوم بارد فحمّ ومرض خمسة عشر يوماً، وكان عمر رضي الله عنه يصلي بالناس حين ثقل.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة يركب وأبو بكر رضي الله عنه رديفه، وهو أسنّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر، رضي الله عنه، يعرف الطريق لاختلافه إلى الشام، فكان يمر بالقوم فيقولون: من هذا بين يديك يا أبا بكر؟ فيقول: هادٍ يهديني. وهذا الحديث يدل على أنه أسنّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ورأى أبو بكر رضي الله عنه رجلاً بيده ثوب فقال: أهو للبيع؟ قال: لا أصلحك الله، فقال: هلا قلت: لا، وأصلحك الله لئلا يشتبه الدعاء لي بالدعاء علي؟ وقال لرجل قال له: لأشتمّنك شتماً يدخل معك قبرك، قال: معك يدخل والله لا معي. ومدح قوم أبا بكر رضي الله عنه فقال: الله أعلم بي مني بنفسي، وأنا أعلم بنفسي منكم، فاستغفروا الله مما لا تعلمون، وأسأله أن لا يؤاخذكم بما تقولون، وأن يجعلني خيراً مما تظنون.

وحكي أن أبا بكر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته فأخفاها فقال: يا رسول الله، هذه صدقتي ولله عندي معاد، وجاء عمر رضي الله عنه بصدقته فأظهرها وقال: يا رسول الله، هذه صدقتي ولي عند الله المعاد، فقال رسول الله صلى عليه وسلم: يا عمر، وترت قوسك بغير وتر، ما بين صدقتيكما كما بين كلمتيكما.

أولاده لصلبه وأعقابهم: عبد الله بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر وأمهما قتيلة من بني عامر بن لؤي، وعبد الرحمن وعائشة وأمهما أم رومان بنت الحارث بن الحويرث من بني فراس بن غنم بن كنانة، ومحمد بن أبي بكر أمه أسماء بنت عميس، وأم كلثوم أمها بنت زيد بن خارجة - رجل من الأنصار.

فأما عبد الله بن أبي بكر فإنه شهد الطائف مع النبي صلى الله عليه وسلم فجرح وبقي إلى خلافة أبيه ومات وترك سبعة دنانير فاستكثرها أبوه رضي الله عنه. وولد عبد الله إسماعيل، وهلك ولا عقب له.

وأما أسماء فهي ذات النطاقين وتزوجها الزبير بمكة فولدت له عدة أولاد، ثم طلقها فكانت مع عبد الله ابنها حتى قتل، وبقيت مائة سنة حتى عميت وماتت بمكة رضي الله عنها.

وأما عائشة رضي الله عنها فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم ذكرها في هذا الحرف -.

وأما عبد الرحمن بن أبي بكر فشهد يوم بدر مع المشركين ثم أسلم وحسن إسلامه ومات فجأة سنة ثلاث وخمسين بجبل بقرب مكة، فأدخلته عائشة الحرم ودفنته وأعتقت عنه. وكان شهد الجمل معها، ويكنى أبا عبد الله.

وأما أم كلثوم فتزوجها طلحة بن عبيد الله فولدت له محمداً وكان عاملاً على مكة. وولدت له زكريا وعائشة، ثم قتل عنها فتزوجها عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي - الآتي ذكره- ولطلحة عقب كثير وهم ينزلون بالقرب من المدينة، وكانت بنت محمد بن طلحة عند سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس.

وأما محمد بن عبد الرحمن فولد عبد الله بن محمد وله عقب يقال لهم آل أبي عتيق من بين ولد أبي بكر وذلك أن عدةً من ولد أبي بكر تفاضلوا فقال أحدهم: أنا ابن الصّديق، وقال الآخر: أنا ابن ثاني اثنين، وقال آخر: أنا ابن صاحب الغار، وقال محمد بن عبد الرحمن: أنا ابن عتيق، فنسب إلى ذلك هو وولده إلى اليوم.

وأما محمد بن أبي بكر فسيأتي ذكره في حرف الميم إن شاء الله تعالى.

مواليه: بلال بن أبي رباح وأمه حمامة، وكان من مولدي السراة فيما بين اليمن والطائف، وكان لرجل من بني جمح فاشتراه أبو بكر رضي الله عنه بخمس أواقي وأعتقه، وكان من المعذبين في الله عز وجل، وشهد بلال بدر والمشاهد كلها، وهو أول من أذّن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه فاستأذنه إلى الشام فأذن له، فلم يزل مقيماً بها ولم يؤذن بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأحد منهم، فلما قدم عمر رضي الله عنه إلى الشام لقيه فأمره بالأذان فأذّن، فبكى عمر والمسلمون معه. وكان بلال يكنى أبا عبد الله، وكان شديد الأدمة نحيفاً طوالاً خفيف العارضين به شمط كبير وكان لا يغير شيبه. مات بدمشق سنة عشرين وهو ابن بضع وستين سنة، رحمه الله تعالى.

كتّابه: عثمان بن عفان رضي الله عنه وزيد بن ثابت.

قاضيه: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل أنه أقام سنة لم يختصم إليه أحد.

حاجبه: شديد مولاه.

وكان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده.