عبد الله بن طاهر

أبو العباس عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب بن رزيق بن ماهان الخزاعي - وقد تقدم ذكر أبيه في حرف الطاء؛ وقد كان عبد الله المذكور سيداً نبيلاً عالي الهمة شهماً، وكان المأمون كثير الاعتماد عليه حسن الالتفات إليه لذاته، ورعايةً لحق والده وما أسلفه من الطاعة في خدمته، وكان والياً على الدينور، فلما خرج بابك الخرمي على خراسان وأوقع الخوارج بأهل قرية الحمراء من أعمال نيسابور وأكثروا الفساد واتصل الخبر بالمأمون بعث إلى عبد الله هو بالدينور يأمره بالخروج إلى خراسان، فخرج إليها في النصف من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشر ة ومائتين وحارب الخوارج، وقدم نيسابور في رجب سنة خمس عشرة ومائتين وكان المطر قد انقطع عنها تلك السنة، فلما دخلها مطرت مطراً كثيراً، فقام أليه رجل بزاز من حانوته وأنشده:

قد قحط الناس في زمانهم

 

حتى إذا جئت جئت بالدّرر

غيثان في ساعةٍ لنا قدمـا

 

فمرحباً بالأمير والمطـر

 

هكذا قال السلامي في أخبار خراسان؛ وذكر الطبري في تاريخه أن طلحة بن طاهر - المذكور في ترجمة أبيه - لما مات في سنة ثلاث عشرة وعبد الله يوم ذاك بالدينور أرسل المأمون إليه القاضي يحيى بن أكثم يعزيه عن أخيه طلحة ويهنئه بولاية خراسان، وذكر بعد هذا في ولاية طلحة شيئاً آخر فقال: إن المأمون لما مات طاهر وكان ولده عبد الله بالرقة على محاربة نصر بن شبث ولاه عمل أبيه كله، وجمع له مع ذلك الشام، فوجه عبد الله أخاه طلحة إلى خراسان والله أعلم.


وذكر الطبري أيضاً في سنة ثلاث عشرة أن المأمون ولى أخاه المعتصم الشام ومصر، وابنه العباس بن المأمون الجزيرة والثغور والعواصم، وأعطى كل واحد منهما ومن عبد الله بن طاهر خمسمائة ألف دينار، وقيل إنه لم يفرق في يوم من المال مثل ذلك.


وكان أبو تمام الطائي قد قصد عبد الله من العراق، فلما انتهى إلى قومس وطالت به الشقة وعظمت عليه المشقة قال:

 

يقول في قومس صحبي وقد أخذت

 

مّنا السّرى وخطى المهريَّة القود

أمطلع الشمس تنوي أن تؤم بـنـا

 

فقلت كلاّ ولكن مطلع الـجـود

 

قلت: وقد أخذ أبو تمام هذين البيتين من أبي وليد مسلم بن الوليد الأنصاري المعروف بصريع الغواني الشاعر المشهور حيث يقول:

يقول صحبي وقد جدُّوا على عجل

 

والخيل تستنَّ بالركبان في اللّجـم

أمغرب الشمس تنوي أن تؤم بنـا

 

فقلت كلاّ ولكن مطلع الـكـرم

 

فإنه أغار على اللفظ والمعنى.


رجعنا إلى ما كنافيه: ولما وصل أبو تمام إليه أنشده قصيدته البديعة البائية التي يقول فيها:

وركب كأطراف الأسنّة عرسّوا

 

على مثلها والليل تسطو غياهبه

لأمرٍ عليهم أن تتـم صـدوره

 

وليس عليهم أن تتم عواقـبـه

 

وهي من القصائد الطنانة، وفيها يقول:

فقد بثَّ عبد الله خوف انتقامـه

 

على الليل حتى ما تدبُّ عقاربه

 

وفي هذه السفرة ألف أبو تمام كتاب " الحماسة" فإنه لما وصل إلى همذان وكان في زمن الشتاء والبرد بتلك النواحي شديد خارج عن حد الوصف، قطع عليه كثرة الثلوج طريق مقصده، فأقام بهمذان ينتظر زوال الثلج، وكان نزوله عند بعض رؤسائها، وفي دار ذلك الرئيس خزانة كتب فيها دواوين العرب وغيرها، فتفرغ لها أبو تمام وطالعها وأختار منها كتاب " الحماسة ". وكان عبد الله المذكور أديباً ظريفاً جيد الغناء، نسب أليه صاحب" الأغاني" أصواتاً كثيرة أحسن فيها ونقلها أهل الصنعة عنه، وله شعر مليح ورسائل ظريفة، فمن شعره قوله، وجدتها منسوبة إليه:

نحن قوم تليننا الـحـدق الـنّـج

 

ل على أننـا نـلـين الـحـديدا

طوع أيدي الظباء تقتادنا الـعـي

 

ن ونقتاد بالـطـعـان الأسـودا

نملك الصيد ثم تملكـنـا الـبـي

 

ض المصونات أعينـاً وخـدودا

تتقي سخطنا الأسود ونـخـشـى

 

سخط الخشف حين يبدي الصدودا

فترانا يوم الكـريهة أحـرا

 

راً وفي السلم للغواني عبيداً

 

وقيل: إنها لأصرم بن حميد ممدوح أبي تمام، والله أعلم.


ومن مشهور شعر عبد الله قوله:

اغتفر زلتي لتحرز فضل الشكر منّي ولا يفوتك أجري

 

لا تكلني إلى التوسل بالعذ

 

ر لـعــلّـــي أن لا أقـــوم بـــعـــذري

 

وكان عبد الله أحد الأجواد الأسخياء؛ حكى محمد بن داود بن الجراح عن محلم بن أبي محلم الشيباني عن أبيه قال: عادلت عبد الله بن طاهر إلى خراسان فدخلنا الري وقت السحر فإذا قمرية تغرد على فنن شجرة، فقال عبد الله بن طاهر: أحسن والله أبو كبير الهذلي حيث يقول:

 

ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر

 

وغصنك ميّاد ففيم تـنـوح

 

ثم قال: ما أحسن هذا، فقلت وقد عملت على البديهة في معارضته ثم قلت:

أفـي كـل يوم غـربةٌ ونــزوح

 

أما للنـوى مـن أوبةٍ فـتـروح

لقد طلَّح البين المشـتّ ركـائبـي

 

فهل أرينّ البـين وهـو طـلـيح

وأرّقني بـالـري نـوح حـمـامةٍ

 

فنحت وذو الشجو الـقـديم ينـوح

على انها ناحت فلـم تـذر دمـعة

 

ونحت وأسراب الدموع سـفـوح

وناحت وفرخاها بحيث تـراهـمـا

 

ومن دون أفراخي مهـامـه فـيح

عسى جود عبد الله ان يعكس النوى

 

فتضحي عصا الاسفار وهي طريح

 

قال: فأذن من ساعتي بالرجوع ووصلني بعشرة آلاف درهم وردني إلى منزلي.


ولما رجع عبد الله إلى الشام ارتفع فوق سطح قصره فنظر إلى دخان يرتفع من جواره فقال: ما هذا الدخان؟ فقيل: إن الجيران يخبزون، فقال: ان من اللؤم ان نقيم بمكان فنكلف جيرانه بالخبز، فاقصدوا الدور واكسروا التنانير واحضروا ما بها من رجل وامرأة، فأجرى على كل إنسان خبزه ولحمه وما يحتاج إليه، فسميت أيامه أيام الكفاية.


وكتب إليه وكيله أن دابة بعض الأضياف به نقبٌ، فوقّع: يجلب عليه وعلى مثله من بعد، بلا استشارة ولا استئذان.


ومن كلامه: سمن الكيس ونبل الذّكر لا يجتمعان في موضع واحد.


ورفعت إليه قصة مضمونها أن جماعة خرجوا إلى ظاهر البلد للتفرج، ومعهم صبي، فكتب على رأسها: ما السبيل على فتية خرجوا لمتنزّههم يقضون أوطارهم، على قدر أخطارهم، ولعل الغلام ابن أحدهم أو قرابة بعضهم.


وكان عبد الله قد تولى الشام مدة، والديار المصرية مدة، وفيه يقول بعض الشعراء وهو بمصر:

 

يقول أناسٌ إن مصـراً بـعـيدة

 

وما بعدت مصر وفيها ابن طاهر

وأبعد من مصر رجال تـراهـم

 

بحضرتنا معروفهم غير حاضـر

عن الخير موتى ما تبالي أزرتهم

 

على طمع أم زرت أهل المقابر

 

وتنسب هذه الأبيات إلى عوف بن محلّم الشيباني، والله أعلم.


وكان دخوله إليها سنة إحدى عشرة ومائتين، وخرج منها في أواخر هذه السنة فدخل بغداد في ذي القعدة منها، واستمر نوابه بمصر، وعزل عنها في سنة ثلاث عشرة ومائتين، ووليها أبو إسحاق ابن الرشيد وهو الملقب بالمعتصم.


وذكر الفرغاني في تاريخه أن عبد الله بن طاهر وليها بعد عبيد الله بن السّريّ بن الحكم، وخرج عبيد الله عنها في صفر سنة إحدى عشرة ومائتين، وخرج عبد الله بن طاهر عنها إلى العراق لخمس بقين من رجب سنة اثنتي عشرة ومائتين، وقد استخلف بها إلى أن وليها المعتصم. وذكر الوزير أبو القاسم بن المغربي في كتاب " أدب الخواص " أن البطيخ العبدلاّوي الموجود بالديار المصرية منسوب إلى عبد الله المذكور، وهذا النوع من البطيخ لم أره في شيء من البلاد سوى مصر، ولعله نسب إليه لأنه كان يستطيبه، أو أنه أول من زرعه هناك.


90 وعبد الله وقومه خزاعيون بالولاء، فإن جدّهم رزيقاً كان مولى أبي محمد طلحة بن عبيد الله بن خلف المعروف بطلحة الطّلحات الخزاعي، وكان طلحة المذكور والياً على سجستان من قبل مسلم بن زياد بن أبيه والي خراسان، وكنيته أبو حرب، فمات بها في فتنة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وفيه يقول الشاعر وهو عبيد الله بن قيس الرقيات:

 

رحم الله أعظماً دفنوهـا

 

بسجستان طلحة الطلحات

وإنما قيل له " طلحة الطلحاتِ" لأن أمه طلحة بنت أبي طلحة، هكذا قاله أبو الحسين علي بن أحمد السلامي في " تاريخ ولاة خراسان ".

 وقومس المذكور في شعر أبي تمام: بضم القاف وسكون الواو وفتح الميم، وقيل بكسرها، وبعدها سين مهملة، وهو إقليم من عراق العجم حدّه من جهة خراسان بسطام، ومن جهة العراق سمنان، هاتان المدينتان داخلتان في أعمال قومس وكرسي قومس الدامغان.
وكانت وفاة عبد الله المذكور في شهر ربيع الأول سنة ثمان وعشرين ومائتين بمرو، وقيل: سنة ثلاثين، وهو الأصح. وقال الطبري: مات بنيسابور يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول من سنة ثلاثين ومائتين، بعد موت أشناس التركي بسبعة أيام. وعاش مثل أبيه طاهر ثمانياً وأربعين سنة، رحمه الله تعالى - وسيأتي ذكر ولده عبيد الله إن شاء الله تعالى.