الخطيب ابن نباتة

الخطيب أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل بن نباتة، الحذاقي الفارقي صاحب الخطب المشهورة؛ كان إماماً في علوم الأدب، ورزق السعادة في خطبه التي وقع الإجماع على أنه ما عمل مثلها، وفيها دلالة على غزارة علمه وجودة قريحته. وهو من أهل ميافارقين، وكان خطيب حلب وبها اجتمع بأبي الطيب المتنبي في خدمة سيف الدولة بن حمدان، وقالوا: إنه سمع عليه بعض ديوانه. وكان سيف الدولة كثير الغزوات فلهذا أكثر الخطيب من خطب الجهاد ليحض الناس عليه، ويحثهم على نصرة سيف الدولة، وكان رجلاً صالحاً.

وذكر الشيخ تاج الدين الكندي بإسناده المتصل إلى الخطيب ابن نباتة أنه قال: لما عملت خطبة المنام وخطبت بها يوم الجمعة رأيت ليلة السبت في منامي كأني بظاهر ميافارقين عند الجبانة فقلت: ما هذا الجمع؟ فقال لي قائل: هذا النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، فقصدت إليه لأسلم عليه، فلما دنوت منه التفت فرآني فقال: مرحباً يا خطيب الخطباء، كيف تقول؟ وأومأ إلى القبور؛ قلت: لا يخبرون بما إليه آلوا، ولو قدروا على المقال لقالوا، قد شربوا من الموت كأساً مرة، ولم يفقدوا من أعمالهم ذرة، وآلى عليهم الدهر ألية برة، ألا يجعل لهم إلى دار الدنيا كرة، كأنهم لم يكونوا للعيون قرة، ولم يعدوا في الأحياء مرة، أسكتهم والله الذي أنطقهم، وأبادهم الذي خلقهم، وسيجدهم كما أخلقهم، ويجمعهم كما فرقهم " يوم يعيد الله العالمين خلقاً جديداً، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقوداً، يوم تكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً -وأومأت عند قولي " تكونون شهداء على الناس " إلى الصحابة وبقولي " شهيداً " إلى الرسول صلى الله عليه وسلم - "" يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ""، فقال لي:أحسنت، ادن، فدنوت منه صلى الله عليه وسلم فأخذ وجهي وقبله " ثم تفل في فيَّ وقال: وفقك الله، قال: فانتبهت من النوم وبي من السرور ما يجل عن الوصف فأخبرت أهلي بما رأيت.

قال الكندي بروايته: وبقي الخطيب بعد هذا المنام ثلاثة أيام لا يطعم طعاماً ولا يشتهيه، ويوجد في فيه رائحة المسك، ولم يعش إلا مدة يسيرة. ولما استيقظ الخطيب من منامه كان على وجهه أثر نور وبهجة لم تكن قبل ذلك، وقص رؤياه على الناس، وقال: سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً، وعاش بعد ذلك ثمانية عشر يوماً لا يستطعم فيها طعاماً ولا شراباً من أجل تلك التفلة وبركتها. وهذه الخطبة التي فيها هذه الكلمات تعرف بالمنامية لهذه الواقعة.

وهذا الخطيب لم أر أحداً من المؤرخين ذكر تاريخه في المولد والوفاة سوى ابن الأزرق الفارقي في تاريخه، فإنه قال: ولد في سنة خمس وثلاثين وثلثمائة. وتوفي في سنة أربع وسبعين وثلثمائة بميافارقين ودفن بها، رحمه الله تعالى.

ورأيت في بعض المجاميع قال الوزير أبو القاسم ابن المغربي: رأيت الخطيب ابن نباتة في المنام بعد موته فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: دفع لي ورقة فيها سطران بالأحمر وهما:

قد كان أمنٌ لك من قبـل ذا

 

واليوم أضحى لك أمـنـان

والصفح لا يحسن عن محسن

 

وإنما يحسن عـن جـانـي

قال: فانتبهت من النوم وأنا أكررهما.

ونباتة: بضم النون وفتح الباء الموحدة وبعد الألف تاء مثناة من فوقها مفتوحة ثم هاء ساكنة.

والحذاقي: بضم الحاء المهملة وفتح الذال المعجمة وبعد الألف قاف، هذه النسبة إلى حذاقة بطن من قضاعة، وقال ابن قتيبة في كتاب " أخبار الشعراء ": وحذاق قبيلة من إياد، والله أعلم.