القاضي الفاضل

أبو علي عبد الرحيم ابن القاضي الأشرف بهاء الدين أبي المجد علي ابن القاضي السعيد أبي محمد الحسن بن الحسن بن أحمد بن الفرج بن أحمد اللخمي العسقلاني المولد المصري الدار، المعروف بالقاضي الفاضل الملقب مجير الدين؛ وزر للسلطان الملك الناصر صلاح الدين، رحمه الله تعالى، وتمكن منه غاية التمكن، وبرز في صناعة الإنشاء، وفاق المتقدمين، وله فيه الغرائب مع الإكثار. أخبرني أحد الفضلاء الثقات المطلعين على حقيقة أمره أن مسودات رسائله في المجلدات والتعليقات في الأوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة مجلد، وهو مجيد في أكثرها.

قال العماد الأصبهاني في كتاب " الخريدة " في حقه: رب القلم والبيان، واللسن واللسان، والقريحة الوقادة، والبصيرة النقادة، والبديهة المعجزة، والبديعة المطرزة، والفضل الذي ما سمع في الأوائل بمن لو عاش في زمانه لتعلق بغباره، أو جرى في مضماره، فهو كالشريعة المحمدية التي نسخت الشرائع، ورسخت بها الصنائع، يخترع الأفكار، ويفترع الأبكار، ويطلع الأنوار، ويبدع الأزهار، وهو ضابط الملك بآرائه، رابط السلك بآلائه، إن شاء أنشأ في يوم واحد بل في ساعة واحدة ما لو دون لكان لأهل الصناعة خير بضاعة، أين قس عند فصاحته؟ وابن قيس في مقام حصافته؟ ومن حاتم وعمرو في سماحته وحماسته؟ وأطال القول في تقريظه.

ونذكر له رسالة لطيفة كتبها على يد خطيب عيذاب إلى صلاح الدين يتشفع له في توليته خطابة الكرك وهي: " أدام الله السلطان الملك الناصر وتبته، وتقبل عمله بقبولٍ صالح وأنبته، وأخذ عدوه قائلاً أو بيته، وأرغم أنفه بسيفه وكبته، خدمة المملوك هذه واردة على يد خطيب عيذاب، ولما نبا به المنزل عنها، وقل عليه المرفق فيها، وسمع بهذه الفتوحات التي طبق الأرض ذكرها ووجب على أهلها شكرها، هاجر من هجير عيذاب وملحها، سارياً في ليلة أمل كلها نهار فلا يسأل عن صبحها. وقد رغب في خطابة الكرك وهو خطيب، وتوسل بالمملوك في هذا الملتمس وهو قريب، ونزع من مصر إلى الشام ومن عيذاب إلى الكرك وهذا عجيب، والفقر سائق عنيف، والمذكور عائل ضعيف، ولطف الله بالخلق بوجود مولانا لطيف، والسلام ".

وله من جملة رسالة في صفة قلعة شاهقة ولقد أبدع فيها، ويقال إنها قلعة كوكب " وهذه القلعة عقاب في عقاب، ونجم في سحاب، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامة ".

وملحه ونوادره كثيرة. وقوله " كان الهلال لها قلامة " أخذه من قول عبد الله بن المعتز من جملة أبياته المتقدم ذكرها في ترجمته وهو قوله:

ولاح ضوء هلال كاد يفضحنـا

 

مثل القلامة قد قدت من الظفر

 

وابن المعتز أخذه من قول عمرو بن قميئة وهو:

كأن ابن مزنتها جـانـحـاً

 

فسيط لدى الأفق من خنصر

 

والفسيط، بفتح الفاء وكسر السين المهملة، قلامة الظفر.

 

ومن كلامه في أثناء رسالة وقد كبر: " والمملوك قد وهت ركبتاه، وضعف أطيباه، وكتبت لام ألف عند قيامه رجلاه، ولم يبق من نظره إلا شفافة، ومن حديثه إلا خرافة ".


وله في النظم أيضاً أشياء حسنة، منها ما أنشده عند وصوله إلى الفرات في خدمة السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، ويتشوق نيل مصر:

بالله قل للنيل عـنـي إنـنـي

 

لم أشف من ماء الفرات غليلا

وسل الفؤاد فإنه لي شـاهـد

 

إن كان جفني بالدموع بخـيلا

يا قلب كم خلفت ثـم بـثـينةً

 

وأعيذ صبرك أن يكون جميلا

 

ومن المنسوب إلى القاضي الفاضل قوله:

عتبٌ أقلب فيه طرف ترقبي

 

فعسى يكون وراءه الإعتاب

 

ومن شعره أيضاً:

بتنا على حال يسر الهوى

 

وربما لا يمكن الشـرح

بوابنا الليل، وقلنـا لـه:

 

إن غبت عنا دخل الصبح

 

ولقد نظمت هذا المعنى في دوبيت وهو:

ما أطيب ليلة مضت بالـسـفـح

 

والوصف لها يقصر عنه شرحي

إذ قلت لها بوابنـا أنـت مـتـى

 

ما غبت نخاف من دخول الصبح

 

وكان كثيراً ما ينشد لابن مكنسة، وهو أبو طاهر إسماعيل بن محمد بن الحسين القرشي الإسكندري:

وإذا السعادة أحرستك عيونهـا

 

نم فالمخاوف كلهـن أمـان

واصطد بها العنقاء فهي حبائل

 

واقتد بها الجوزاء فهي عنان

 

 " وكان الملك العزيز بن صلاح الدين يميل إلى القاضي الفاضل في حياة أبيه، فاتفق أن العزيز هوي قينة شغلته عن مصالحه، وبلغ ذلك والده، فأمره بتركها ومنعها من صحبته، فشق ذلك عليه، وضاق صدره، ولم يجسر أن يجتمع بها، فلما طال ذلك بينهما سيرت له مع بعض الخدم كرة عنبر، فكسرها فوجد في وسطها زر ذهب، فأفكر فيه ولم يعرف معناه، واتفق حضور القاضي، فعرفه الصورة، فعمل القاضي الفاضل في ذلك بيتين وأرسلهما إليه وهما:

أهدت لك العنبر في وسطه

 

زرٌ من التبر دقيق اللحـام

فالزر في العنبر معناهـمـا

 

زر هكذا مستتراً في الظلام

 

فعلم الملك العزيز أنها أرادت زيارته في الليل ".

 

وشعره أيضاً كثير.


وكانت ولادته يوم الاثنين في خامس عشر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة بمدينة عسقلان، وتولى أبوه القضاء بمدينة بيسان فلهذا نسبوا إليها، وفي ترجمة الموفق يوسف بن الخلال - في حرف الياء - صورة مبدإ أمره وقدومه الديار المصرية واشتغاله عليه بصناعة الإنشاء، فلا حاجة إلى ذكره ها هنا.


ثم إنه تعلق بالخدم في ثغر الاسكندرية وأقام به مدة، وقال الفقيه عمارة اليمني في كتاب " النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية " في ترجمة العادل ابن الصالح بن رزيك: ومن محاسن أيامه وما يؤرخ عنها، بل هي الحسنة التي لا توازى، بل هي اليد البيضاء التي لا تجازى، خروج أمره إلى والي الاسكندرية بتسيير القاضي الفاضل إلى الباب، واستخدامه بحضرته وبين يديه في ديوان الجيش، فإنه غرس منه للدولة بل للملة، شجرة مباركة متزايدة النماء، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.


وقد تقدم ذكر ما آل إليه أمره من وزارة السلطان صلاح الدين، وترقي منزلته عنده، وبعد وفاة صلاح الدين استمر على ما كان عليه عند ولده الملك العزيز في المكانة والرفعة ونفاذ الأمر، ولما توفي العزيز وقام ولده الملك المنصور بالملك بتدبير عمه الملك الأفضل نور الدين كان أيضاً على حاله. ولم يزل كذلك إلى أن وصل الملك العادل وأخذ الديار المصرية، وعند دخوله القاهرة توفي القاضي الفاضل، وذلك في ليلة الأربعاء سابع شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين وخمسمائة بالقاهرة، فجأة، ودفن في تربته من الغد بسفح المقطم في القرافة الصغرى، وزرت قبره مراراً، وقرأت تاريخ وفاته على الرخام المحوط حول القبر كما هو ها هنا، رحمه الله تعالى؛ وكان من محاسن الدهر وهيهات أن يخلف الزمان مثله.


وبنى بالقاهرة مدرسة بدرب ملوخية، ورأيت بخطه أنه استفتح التدريس بها يوم السبت مستهل المحرم من سنة ثمانين وخمسمائة. وأما لقبه فإن أهله يقولون: إنه كان يلقب محيي الدين، ورأيت مكاتبة الشيخ شرف الدين عبد الله بن أبي عصرون - المقدم ذكره - إليه وهو يخاطبه بمجير الدين، والله أعلم بالصواب.


وكان ولده القاضي الأشرف بهاء الدين أبو العباس أحمد ابن القاضي الفاضل كبير المنزلة عند الملوك، وكان مثابراً على سماع الحديث وتحصيل الكتب، ومولده في المحرم سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة بالقاهرة، وتوفي بها في ليلة الاثنين سابع جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة، ودفن بسفح المقطم إلى جانب قبر أبيه، وكان الملك الكامل ابن الملك العادل ابن أيوب قد سيره من مصر في رسالة إلى بغداد، فأنشد الوزير من نظمه:

يا أيها المولى الوزير ومن لـه

 

مننٌ حللن من الزمان وثـاقـي

من شاكر عني نداك فـإنـنـي

 

من عظم ما أوليت ضاق نطاقي

مننٌ تخف علـى يديك، وإنـمـا

 

ثقلت مؤونتها على الأعـنـاق