إمام الحرمين

أبو المعالي عبد الملك ابن الشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي يعقوب يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه، الجويني، الفقيه الشافعي الملقب ضياء الدين، المعروف بإمام الحرمين؛ أعلم المتأخرين من أصحاب الإمام الشافعي على الإطلاق، المجمع على إمامته المتفق على غزارة مادته وتفننه في العلوم من الأصول والفروع والأدب وغير ذلك، وقد تقدم ذكر والده في العبادلة، ورزق من التوسع في العبارة ما لم يعهد من غيره، وكان يذكر دروساً يقع كل واحد منها في عدة أوراق ولا يتلعثم في كلمة منها، وتفقه في صباه على والده أبي محمد، وكان يعجب بطبعه وتحصيله وجودة قريحته وما يظهر عليه من مخايل الإقبال، فأتى على جميع مصنفات والده وتصرف فيها، حتى زاد عليه في التحقيق والتدقيق. ولما توفي والده قعد مكانه للتدريس، وإذا فرغ منه مضى إلى الأستاذ أبي القاسم الإسكافي الإسفرايني بمدرسة البيهقي حتى حصل عليه علم الأصول، ثم سافر إلى بغداد ولقي بها جماعة من العلماء، ثم خرج إلى الحجاز وجاور بمكة أربع سنين، وبالمدينة، يدرس ويفتي ويجمع طرق المذهب، فلهذا قيل له إمام الحرمين، ثم عاد إلى نيسابور في أوائل ولاية السلطان ألب أرسلان السلجوقي، والوزير يومئذ نظام الملك، فبنى له المدرسة النظامية بمدينة نيسابور، وتولى الخطابة بها، وكان يجلس للوعظ والمناظرة، وظهرت تصانيفه، وحضر دروسه الأكابر من الأئمة وانتهت إليه رياسة الأصحاب، وفوض إليه أمور الأوقاف، وبقي على ذلك قريباً من ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع، مسلم له المحراب والمنبر والخطابة والتدريس ومجلس التذكير يوم الجمعة.

وصنف في كل فن: منها كتاب " نهاية المطلب في دراية المذهب " الذي ما صنف في الإسلام مثله، قال أبو جعفر الحافظ: سمعت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي يقول لإمام الحرمين: يا مفيد أهل المشرق والمغرب، أنت اليوم إمام الأئمة. وسمع الحديث من جماعة كبيرة من علمائه، وله إجازة من الحافظ أبي نعيم الأصبهاني صاحب " حلية الأولياء ". ومن تصانيفه " الشامل " في أصول الدين، و" البرهان " في أصول الفقه، و" تلخيص التقريب " و" الإرشاد " و" العقيدة النظامية " و" مدارك العقول " لم يتمه، وكتاب " تلخيص نهاية المطلب " لم يتمه، و" غياث الأمم في الإمامة " و" مغيث الخلق في اختيار الأحق " و" غنية المسترشدين " في الخلاف وغير ذلك من الكتب. وكان إذا شرع في علوم الصوفية وشرح الأحوال أبكى الحاضرين، ولم يزل على طريقة حميدة مرضية من أول عمره إلى آخره.

أخبرني بعض المشايخ أنه وقف على جلية أمره في بعض الكتب، وأن والده الشيخ أبا محمد، رحمه الله تعالى، كان في أول أمره ينسخ بالأجرة، فاجتمع له من كسب يده شيء اشترى به جارية موصوفة بالخير والصلاح، ولم يزل يطمعها من كسب يده أيضاً إلى أن حملت بإمام الحرمين، وهو مستمر على تربيتها بكسب الحل، فلما وضعته أوصاها أن لا تمكن أحداً من إرضاعه، فاتفق أنه دخل عليها يوماً وهي متألمة والصغير يبكي، وقد أخذته امرأة من جيرانهم وشاغلته بثديها فرضع منه قليلاً، فلما رآه شق عليه وأخذه إليه ونكس رأسه ومسح على بطنه وأدخل إصبعه في فيه ولم يزل يفعل به ذلك حتى قاء جميع ما شربه، وهو يقول: يسهل علي أن يموت ولا يفسد طبعه بشرب لبن غير أمه. ويحكى عن إمام الحرمين أنه كان تلحقه بعض الأحيان فترةٌ في مجلس المناظرة فيقول: هذا من بقايا تلك الرضعة.

ومولده في ثامن عشر المحرم سنة تسع عشرة وأربعمائة، ولما مرض حمل إلى قرية من أعمال نيسابور، يقال لها بشتنقان موصوفة باعتدال الهواء وخفة الماء، فمات بها ليلة الأربعاء وقت العشاء الآخرة الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، ونقل إلى نيسابور تلك الليلة ودفن من الغد في داره، ثم نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين فدفن بجنب أبيه، رحمهما الله تعالى، وصلى عليه ولده أبو القاسم، فأغلقت الأسواق يوم موته وكسر منبره في الجامع وقعد الناس لعزائه وأكثروا فيه المراثي.
ومما رثي به:

قلوب العالمين على المقالي

 

وأيام الورى شبه الليالـي

أيثمر غصن أهل العلم يوماً

 

وقد مات الإمام أبو المعالي

وكانت تلامذته يومئذٍ قريباً من أربعمائة واحد، فكسروا محابرهم وأقلامهم وأقاموا على ذلك عاماً كاملاً.