ديك الجن

أبو محمد عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن زيد بن تميم الكلبي الملقب ديك الجن، الشاعر المشهور؛ وذكر ابن الجراح في كتاب " الورقة " أنه مولى لطيء، والله أعلم؛ أصله من أهل سلمية، ومولده بمدينة حمص، وتميم أول من أسلم من أجداده على يد حبيب بن مسلمة الفهري، أخذ محارباً، وكان يفخر على العرب ويقول: مالهم فضل علينا، أسلمنا كما أسلموا. وهو من شعراء الدولة العباسية، ولم يفارق الشام ولا رحل إلى العراق ولا إلى غيره منتجعاً بشعر، ولا متصدياً لأحد، وكان يتشيع تشيعاً حسناً، وله مراثٍ في الحسين، رضي الله عنه. وكان ماجناً خليعاً عاكفاً على القصف واللهو متلافاً لما ورثه، وشعره في غاية الجودة.

حدث عبد الله بن محمد بن عبد الملك الزبيدي قال: كنت جالساً عند ديك الجن، فدخل عليه حدث فأنشده شعراً عمله، فأخرج ديك الجن من تحت مصلاه درجاً كبيراً فيه كثير من شعره فسلمه إليه وقال: يا فتى تكسب بهذا واستعن به على قولك. فلما خرج سألته عنه فقال: هذا فتى من أهل جاسم، يذكر أنه من طيء، يكنى أبا تمام، واسمه حبيب بن أوس، وفيه أدب وذكاء وله قريحة وطبع، قال: وعمر الملقب ديك الجن إلى أن مات أبو تمام ورثاه.

ومولد ديك الجن سنة إحدى وستين ومائة وعاش بضعاً وسبعين سنة، وتوفي في أيام المتوكل سنة خمس أو ست وثلاثين ومائتين.

ولما اجتاز أبو نواس بحمص قاصداً مصر لامتداح الخصيب بن عبد الحميد سمع ديك الجن بوصوله، فاستخفى منه خوفاً أن يظهر لأبي نواس أنه قاصر بالنسبة إليه، فقصده أبو نواس في داره وهو بها، فطرق الباب واستأذن عليه، فقالت الجارية: ليس هو ها هنا؛ فعرف مقصده فقال لها: قولي له اخرج فقد فتنت أهل العراق بقولك:

 

موردة من كف ظبي كأنما

 

تناولها من خده فأدارهـا

 

فلما سمع ديك الجن ذلك خرج إليه واجتمع به وأضافه. وهذا البيت من جملة أبيات وهي:

 

بها غير معذولٍ فداو خـمـارهـا

 

وصل بحبالات الغبوق ابتكـارهـا

ونل من عظيم الوزر كل عظـيمةً

 

إذا ذكرت خاف الحفيظان نارهـا

وقم أنت فاحثث كأسها غير صاغرٍ

 

ولا تسق إلا خمرها وعـقـارهـا

فقام يكاد الكـأس يحـرق كـفـه

 

من الشمس أو من وجنتيه استعارها

ظللنا بأيدينا نـتـعـتـع روحـهـا

 

فتأخذ من أقدامنا الـراح ثـارهـا

موردةً من كف ظبـي كـأنـمـا

 

تناولـهـا مـن خـده فـأدارهـا

 

وذكر الجهشياري في كتاب " أخبار الوزراء " أن حبيب بن عبد الله بن رغبان المذكور في هذا النسب كان كاتباُ في أيام الخليفة المنصور، وكان يتقلد الاعطاء، وكان موجوداً في سنة ثلاث وأربعين ومائة، وأن ديك الجن الشاعر من ولده، وإليه ينسب مسجد ابن رغبان بمدينة السلام، وأنه مولى حبيب ابن مسلمة الفهري.


قلت: وحبيب بن مسلمة كان من خواص معاوية، وله معه في وقعة صفين آثار شكرها له، ولما استقر الأمر لمعاوية سير حبيباً في بعض مهامه، فلقيه الحسن بن علي، رضي الله عنهما، وهو خارج فقال له: يا حبيب، رب مسيرٍ لك في غير طاعة الله، فقال له حبيب: أما إلى أبيك فلا، فقال له الحسن: بلى والله، ولقد طاوعت معاوية على دنياه، وسارعت في هواه، فلئن قام بك في دنياك فقد قعد بك في دينك، فليتك إذ أسأت الفعل أحسنت القول، فتكون كما قال الله تعالى " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً " " التوبة: 102 "ولكنك كما قال الله تعالى " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " " المطففين: 14."

 

وكنية حبيب هذا أبو عبد الرحمن، ولاه معاوية أرمينية فمات بها سنة اثنتين وأربعين للهجرة ولم يبلغ خمسين سنة.


وكانت لديك الجن جارية يهواها اسمها دنيا، فاتهمها بغلامه الوصيف فقتلها ثم ندم على ذلك فأكثر من التغزل فيها، فمن ذلك قوله:

 

يا طلعة طلع الحمام علـيهـا

 

وجنى لها ثمر الردى بيديهـا

رويت من دمها الثرى ولطالما

 

روى الهوى شفتي من شفتيها

مكنت سيفي من مجال خناقهـا

 

ومدامعي تجري على خديهـا

فوحق نعليها وما وطئ الحصى

 

شيء أعز علي من نعلـيهـا

ما كان قتليها لأني لم أكـن

 

أبكي إذا سقط الغبار عليها

لكن بخلت على سواي بحبها

 

وأنفت من نظر الغلام إليها

 

وله فيها:

جاءت تزور فراشي بعد ما قبرت

 

فظلت ألثم نحراً زانـه الـجـيد

وقلت قرة عيني قد بعثـت لـنـا

 

فكيف ذا وطريق القبر مسـدود

قالت هناك عظامي فيه مـودعةً

 

تعيث فيها بنات الأرض والـدود

وهذه الروح قد جـاءتـك زائرةً

 

هذي زيارة من في القبر ملحود

 

وله فيها، وقيل أن هذه الأبيات لها في ولدها منه، واسمه رغبان:

بأبي نبذتك بالعـراء الـمـقـفـر

 

وسترت وجهك بالتراب الأعفـر

بأبي بذلتك بعد صونٍ لـلـبـلـى

 

ورجعت عنك صبرت أو لم أصبر

لو كنت أقدر أن أرى أثر البـلـى

 

لتركت وجهك ضاحياً لم يقـبـر

 

"ويروى أن المتهم بالجارية غلام كان يهواه فقتله أيضاً، وصنع فيه أبياتاً وهي:

أشفقت أن يرد الزمـان بـغـدره

 

أو أبتلى بعد الوصال بـهـجـره

فقتلـتـه ولـه عـلـي كـرامةٌ

 

ملء الحشا وله الفـؤاد بـأسـره

قمرٌ أنا استخرجته مـن دجـنـه

 

لبليتي ورفـعـتـه مـن خـدره

عهدي به ميتاً كـأحـسـن نـائمٍ

 

والحزن ينحر في مقلتي في نحره

لو كان يدري الميت ماذا بـعـده

 

بالحي منه بكى له فـي قـبـره

غصصٌ تكاد تفيظ منها نـفـسـه

 

ويكاد يخرج قلبـه مـن صـدره

 

فصنعت أخت الغلام:

يا ويح ديك الجن يا تبـاً لـه

 

مما تضمن صدره من غدره

قتل الذي يهوى وعمر بعـده

 

يا رب لا تمدد له في عمره "

وقد ذكر أبو بكر الخرائطي في كتاب " اعتلال القلوب " حديثه وشعره وله كل معنى حسن، رحمه الله تعالى.

ورغبان: بفتح الراء وسكون الغين المعجمة وفتح الباء الموحدة وبعد الألف نون.

وقد تقدم الكلام على سلمية في ترجمة المهدي عبيد الله. وحمص: مدينة مشهورة.