الببغاء

أبو الفرج عبد الواحد بن نصر بن محمد المخزومي الشاعر المعروف بالببغاء؛ ذكّره الثعالبي في " يتيمة الدهر " وقال: هو من أهل نصيبين، وبالغ في الثناء عليه وذكر جملة من رسائله ونظمه وما دار بينه وبين أبي إسحاق الصابي، وأشياء يطول شرحها.

واتفق أن أبا الفرج قدم مرة بغداد وأبو إسحاق معتقل مدة طويلة ولم يصبر عنه وزاره في مجلسه ثم انصرف ولم يعاوده فكتب إليه أبو إسحاق:

أبا الفرج اسلم وابق وانعم ولا تـزل

 

يزيدك صرف الدهر حظاً إذا نقص

مضى زمن تستام وصـلـي غـالـياً

 

فأرخصته والبيع غالٍ ومرتـخـص

وأنستني في مـجـلـسـي بـزيارة

 

شفت كبداً من صاحبٍ لك قد خلص

ولكنها كـانـت كـحـسـوة طـائرٍ

 

فواقاً كما يستفرص السارق الفرص

وأحسبك استوحشت من ضيق محبسي

 

وأوجست خوفاً من تذكرك القفـص

كذا الكرز اللماح ينجو بـنـفـسـه

 

إذا عاين الأشراك تنصب للقـنـص

فحوشيت يا قـسَّ الـطـيور بـلاغةً

 

إذا أنشد المنظوم أو درس القصـص

من المنسر الأشغى ومن حدة المـدى

 

ومن بندق الرامي ومن قصة المقص

فهذي دواهي الطير وقيت شـرهـا

 

إذا الدهر من أحداثه جرع الغصص

 

فأجابه أبو الفرج في الحال مع رسوله:

أيا ماجداً مذ يمم المجد مانـكـص

 

وبدر تمامٍ مذ تكامل مـا نـقـص

ستخلص من هذا الـسـرار وأيمـا

 

هلالٍ توارى بالسرار فما خلـص

برأفة تاج الملة الـمـلـك الـذي

 

لسؤدده في خطة المشتري حصص

تقنصت بالألطاف شكري ولم أكـن

 

علمت بأن الحر بالبر يقـتـنـص

وصادفت أدنى فرصة فانتهزتـهـا

 

بلقياك إذ بالحزم تنتهز الـفـرص

أتتني القوافي الزاهرات تجمـل ال

 

بدائع من مستحسن الجد والرخص

فقابلت زهر الروض منها ولم أرد

 

وأحرزت در البحر منها ولم أغص

فإن كنت بالببغاء قدماً مـلـقـبـاً

 

فكم لقبٍ بالجور لا العدل مخترص

وبعد فما أخشى تقـنـص جـارحٍ

 

وقلبك لي وكرٌ ورأيك لي قفـص

 

فانتهى الابتداء والجواب إلى عضد الدولة فأعجب بهما واستظرفهما، وكان ذلك أحد أسباب إطلاق أبي إسحاق من اعتقاله. ثم اتصلت بينهما المودة والكتابة. وحكى القاضي أبو علي التنوخي قال: دخل أبو الفرج عبد الواحد الببغاء على الوزير أبي نصر سأبور بن أردشير وقد نثرت عليه دنانير وجواهر، فأنشد بديهاً:

 

نثروا الجواهر واللجين وليس لي

 

شيءٌ عليه سوى المدائح أنثـر

بقصائدٍ كالدر إن هي أنـشـدت

 

وثنا إذا ما فاح فهو العـنـبـر

 

ومن شعره:

يا سادتي هذه روحي تـودعـكـم

 

إذ كان لا الصبر يسليها ولا الجزع

قد كنت أطمع في روح الحياة لها

 

فالآن إذ بنتم لم يبق لـي طـمـع

لا عذب الله روحي بالبقاء فـمـا

 

أظنها بعدكم بالعيش تـنـتـفـع

 

وله:

خيالك منك أعرف بالـغـرام

 

وأرأف بالمحب المستـهـام

ولو يسطيع حين حظرت نومي

 

علي لزار في غير المـنـام

 

وله أيضاً:

ومهفهفٍ لما اكتست وجناتـه

 

خلع الملاحة طرزت بعذاره

لما انتصرت على أليم جفـائه

 

بالقلب كان القلب من أنصاره

كملت محاسن وجهه فكأنما اق

 

تبس الهلال النور من أنواره

وإذا ألح القلب في هجـرانـه

 

قال الهوى لا بد منه فـداره

 

وله في التشبيه وقد أبدع فيه:

وكأنما نقشت حـوافـر خـيلـه

 

للناظرين أهلةً في الـجـلـمـد

وكأن طرف الشمس مطروفٌ وقد

 

جعل الغبار له مكـان الإثـمـد

 

وله في سعيد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان:

لا غيث نعماه في الورى خلب ال

 

برق ولا ورد جـوده وشــل

جاد إلـى أن لـم يبـق نـائلـه

 

مالاً ولم يبـق لـلـورى أمـل

وقد سبق نظير هذا المعنى في شعر أبي نصر ابن نباتة السعدي. وأكثر شعر أبي الفرج المذكور جيد ومقاصده فيه جميلة. وكان قد خدم سيف الدولة بن حمدان مدة، وبعد وفاته تنقل في البلاد. وتوفي يوم السبت سلخ شعبان سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، وقال الخطيب في تاريخه: توفي في ليلة السبت لثلاث بقين من شعبان سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، والله أعلم، رحمه الله تعالى. وقال الثعالبي: وسمعت الأمير أبا الفضل الميكالي يقول عند صدوره من الحج ودخوله بغداد في سنة تسعين وثلثمائة: ورأيت بها أبا الفرج الببغاء شيخاً عالي السن متطاول الأمد، قد أخذت الأيام من جسمه وقوته ولم تأخذ من ظرفه وأدبه.

والببغاء: بفتح الباء الأولى وتشديد الباء الثانية وفتح الغين المعجمة وبعدها ألف، وهو لقب وإنما لقب به لحسن فصاحته، وقيل: للثغة كانت في لسانه. ووجد بخط أبي الفتح ابن جني النحوي الففغاء، بفاءين، والله أعلم بالصواب.