القاضي عبد الوهاب المالكي

القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد بن الحسين بن هارون بن مالك بن طوق التغلبي البغدادي الفقيه المالكي، وهو من ذرية مالك بن طوق التغلبي صاحب الرحبة؛ كان فقيهاً أديباً شاعراً، صنف في مذهبه كتاب " التلقين " وهو مع صغر حجمه من خيار الكتب وأكثرها فائدة، وله كتاب " المعونة " و" شرح الرسالة " وغير ذلك عدة تصانيف.

ذكره الخطيب في " تاريخ بغداد " فقال: سمع أبا عبد الله بن العسكري وعمر بن محمد بن سبنك وأبا حفص ابن شاهين، وحدث بشيء يسير. كتبت عنه، وكان ثقة، ولم يلق من المالكيين أحداً أفقه منه، وكان حسن النظر جيد العبارة، وتولى القضاء ببادرايا وباكسايا، وخرج في آخر عمره إلى مصر فمات بها.

وذكره ابن بسام في كتاب " الذخيرة " فقال: كان بقية الناس، ولسان أصحاب القياس، وقد وجدت له شعراً معانيه أجلى من الصبح وألفاظه أحلى من الظفر بالنجح، ونبت به بغداد كعادة البلاد بذوي فضلها، وعلى حكم الأيام في محسني أهلها، فخلع أهلها، وودع ماءها وظلها، وحدثت أنه شيعه يوم فصل عنها من أكابرها وأصحاب محابرها جملة موفورة وطوائف كثير، وأنه قال لهم: لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كل غداة وعشية، ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية، وفي ذلك يقول:

سلام على بغداد في كل موطنٍ

 

وحق لها مني سلامٌ مضاعف

فوالله ما فارقتها عن قلىً لهـا

 

وإني بشطي جانبيها لعـارف

ولكنها ضاقت علي بأسـرهـا

 

ولم تكن الأرزاق فيها تساعف

وكانت كخلٍ كنت أهوى دنـوه

 

وأخلاقه تنأى به وتخـالـف

 

واجتاز في طريقه بمعرة النعمان، وكان قاصداً مصر، وبالمعرة يومئذ أبو العلاء المعري فأضافه، وفي ذلك يقول من جملة أبيات:

والمالكي ابن نصرٍ زار في سفرٍ

 

بلادنا فحمدنا النأي والسـفـرا

إذا تفقه أحـيا مـالـكـاً جـدلاً

 

وينشر الملك الضليل إن شعـرا

 

ثم توجه إلى مصر فحمل لواءها، وملأ أرضها وسماءها، واستتبع سادتها وكبراءها، وتناهت إليه الغرائب، وانثالت في يديه الرغائب، فمات لأول ما وصلها من أكلة اشتهاها فأكلها، وزعموا أنه قال وهو يتقلب، ونفسه يتصعد ويتصوب: لا إله إلا الله، إذا عشنا متنا.


وله أشعار رائقة طريفة، فمن ذلك قوله:

ونائمة قبلـتـهـا فـتـنـبـهـت

 

فقالت تعالوا واطلبوا اللص بالحـد

فقلت لها إني فـديتـك غـاصـبٌ

 

وما حكموا في غاصبٍ بسوى الرد

خذيها وكفي عـن أثـيمٍ ظـلامةً

 

وإن أنت لم ترضي فألفاً على العد

فقالت: قصاص يشهد العقـل أنـه

 

على كبد الجاني ألذ من الشـهـد

فباتت يميني وهي هميان خصرها

 

وباتت يساري وهي واسطة العقد

فقالت: ألم أخبـر بـأنـك زاهـدٌ

 

فقلت بلى ما زلت أزهد في الزهد

 

ومن شعره أيضاً:

بغداد دارٌ لأهل المـال طـيبة

 

وللمفاليس دار الضنك والضيق

ظللت حيران أمشي في أزقتها

 

كأنني مصحفٌ في بيت زنديق

 

وله:

أهيم بذكر الشرق والغرب دائمـاً

 

وما لي لا شرق البلاد ولا غرب

ولكـن أوطـانـاً نـأت وأحـبةً

 

فعدت متى أذكر عهودهم أصب

ولم أنس من ودعت بالشط سحرةً

 

وقد غرد الحادون واشتغل الركب

أليفان هذا سـائرٌ نـحـو غـربةٍ

 

وهذا مقيمٌ سار من صدره القرب

 

وله أيضاً:

قطعت الأرض في شهري ربيعٍ

 

إلى مصر وعدت إلى العـراق

وقال لي الحبـيب وقـد رآنـي

 

مشوقاً للمضمـرة الـعـتـاق

ركبت على البراق؟ فقلت كـلا

 

ولكني ركبت على اشتـياقـي

 

وكان على خاطري أبيات لا أعرف لمن هي، ثم وجدتها في عدة مواضع للقاضي عبد الوهاب المذكور وهي:

متى يصل العطاش إلى ارتواءٍ

 

إذا استقت البحار من الركـايا

ومن يثني الأصاغر عن مـرادٍ

 

وقد جلس الأكابر في الـزوايا

وأن ترفع الوضـعـاء يومـاً

 

على الرفعاء من إحدى الرزايا

إذا استوت الأسافل والأعالـي

 

فقد طابت منادمة الـمـنـايا

وذكر صاحب " الذخيرة " أنه ولي القضاء بمدينة اسعرد وقال غيره: كان قاضياً في بادرايا وباكسايا وهما بليدتان من أعمال العراق. وسئل عن مولده فقال: يوم الخميس السابع من شوال سنة اثنتين وستين وثلثمائة ببغداد. وتوفي ليلة الاثنين الرابعة عشرة من صفر سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة بمصر، وقيل: إنه توفي في شعبان من السنة المذكورة رحمه الله تعالى. ودفن في القرافة الصغرى وزرت قبره فيما بين قبة الإمام الشافعي، رضي الله عنه، وباب القرافة، بالقرب من ابن القاسم وأشهب، رحمهما الله تعالى.

وكان أبوه من أعيان الشهود المعدلين ببغداد.

وكان أخوه أبو الحسن محمد بن علي بن نصر أديباً فاضلاً صنف كتاب " المفاوضة " للملك العزيز جلال الدولة أبي منصور ابن أبي طاهر بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه، جمع فيه ما شاهده، وهو من الكتب الممتعة في ثلاثين كراسة، وله رسائل، ومولده ببغداد في إحدى الجماديين في سنة اثنتين وسبعين وثلثمائة، وتوفي يوم الأحد لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين وأربعمائة بواسط وكان قد صعد إليها من البصرة فمات بها.

وتوفي أبوهما أبو الحسن علي يوم السبت ثاني شهر رمضان المعظم إحدى وتسعين وثلثمائة رحمهم الله تعالى.