عروة بن الزبير

أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي، وبقية النسب معروف؛ هو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة -وقد تقدم ذكر خمسة منهم كل واحد في بابه - وأبوه الزبير بن العوام أحد الصحابة العشرة المشهود لهم بالجنة وهو ابن صفية عمة النبي، صلى الله عليه وسلم. وأم عروة المذكور أسماء بنت أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، هي ذات النطاقين وإحدى عجائز الجنة، وعروة شقيق أخيه عبد الله ابن الزبير، بخلاف أخيهما مصعب فإنه لم يكن من أمهما، وقد وردت عنه الرواية في حروف القرآن، وسمع خالته عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، وروي عنه ابن شهاب الزهري وغيره. وكان عالماً صالحاً، وأصابته الأكلة في رجلة وهو بالشام عند مجلس الوليد بن عبد الملك، فقطعت رجله في مجلس الوليد، والوليد مشغول عنه بمن يحدثه، فلم يتحرك ولم يشعر الوليد أنها قطعت حتى كويت فوجد رائحة الكي، هكذا قال ابن قتيبة في كتاب " المعارف "، ولم يترك ورده تلك الليلة، ويقال: إنه مات ولده محمد في تلك السفرة فلما عاد إلى المدينة قال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً، وعاش بعد قطع رجله ثماني سنين.

وذكر أبو العباس المبرد في كتاب "التعازي " ما مثاله: وقال إسحاق ابن أيوب وعامر بن جعفر بن حفص وسلمة بن محارب: قدم عروة بن الزبير على الوليد بن عبد الملك ومعه ولده محمد بن عروة فدخل محمد دار الدواب فضربته دابة فخر ميتاً، ووقعت في رجل عروة الأكلة ولم يدع ورده تلك الليلة فقال له الوليد: اقطعها فقال: لا، فسرت إلى ساقه فقال له الوليد: اقطعها وإلا أفسدت عليك جسدك فقطها بالمنشار وهو شيخ كبير ولم يمسكه أحد وقال لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً.

وقدم تلك السنة قوم من بني عبس فيهم رجل ضرير فسأله الوليد عن عينيه فقال: يا أمير المؤمنين بت ليلة في بطن واد ولا أعلم عبسياً يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيلٌ فذهب بما كان لي من أهل وولد ومال غير بعير وصبي مولود وكان البعير صعباً فند، فوضعت الصبي واتبعت البعير، فلم أجاوز قليلاً حتى سمعت صيحة ابن ورأسه في فم الذئب وهو يأكله، فلحقت البعير لأحبسه فنفحني برجله على وجهي فحطمه وذهب بعيني، فأصبحت لا مال لي ولا أهل ولا ولد ولا بصر؛ فقال الوليد: انطلقوا به إلى عروة ليعلم أن في الناس من هو أعظم منه بلاء.

وكان أحسن من عزاه إبراهيم بن محمد بن طلحة وقال له: والله ما بك حاجة إلى المشي، ولا أربٌ في السعي، وقد تقدمك عضو من أعضائك وابن من أبنائك إلى الجنة، والكل تبع للبعض، إن شاء الله تعالى، وقد أبقى الله لنا منك ما كنا إليه فقراء، وعنه غير أغنياء، ومن علمك ورأيك، نفعك الله وإيانا به، والله ولي ثوابك، والضمين بحسابك.

وحكى سعيد بن أسد قال: حدثنا ضمرة عن ابن شوذب قال: كان عروة بن الزبير إذا كان أيام الرطب ثلم حائطه فيدخل الناس فيأكلون ويحتملون، وكان إذا دخله ردد هذه الأية فيه: " ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله " " الكهف: 39 "حتى يخرج منه. وكان يقرأ ربع القرآن كل يوم نظراً في المصحف ويقوم به الليل، فما تركه إلا ليلة قطعت رجله، ثم عاد من الليلة المقبلة.

وقال ابن قتيبة وغيره: لما دعي الجزار ليقطعها قال له: نسقيك الخمر حتى لا تجد لها ألماً، فقال: لا أستعين بحرام الله على ما أرجو من عافية، قالوا: فنسقيك المرقد، قال:ما أحب أن أسلب عضواً من أعضائي وأنا لا أجد ألم ذلك فأحتسبه، قال: ودخل عليه قوم أنكرهم، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يمسكونك فإن الألم ربما عزب معه الصبر، قال: أرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي، فقطعت كعبه بالسكين حتى إذا بلغ العظم وضع عليها المنشار فقطعت وهو يهلهل ويكبر، ثم أنه أغلي له الزيت في مغارف الحديد فحسم به، فغشي عليه، فأفاق وهو يمسح العرق عن وجهه، ولما رأى القدم بأيديهم دعا بها فقلبها في يده ثم قال: أما والذي حملني عليك إنه ليعلم إني ما مشيت بك إلى حرام، أو قال معصية، ولما دخل ابنه إصطبل الوليد بن عبد الملك وقتلته الدابة كما تقدم لم يسمع في ذلك منه شيء، حتى قدم المدينة فقال: اللهم، إنه كان لي أطراف أربعة فأخذت واحدة وأبقيت لي ثلاثة، فلك الحمد، وايم الله لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لطالما عافيت.

ولما قتل أخوه عبد الله قدم عروة على عبد الملك بن مروان فقال له يوماً: أريد أن تعطيني سيف أخي عبد الله، فقال له: هو بين السيوف ولا أميزه من بينها، فقال عروة: إذا حضرت السيوف ميزته أنا، فأمر عبد الملك بإحضارها، فلما حضرت أخذ منها سيفاً مفلل الحد فقال: هذا سيف أخي، وقال عبد الملك: كنت تعرفه قبل الأن؟ فقال: لا، فقال: كيف عرفته؟ قال: بقول النابغة الذبياني:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم        بهن فلولا من قراع الكتائب

وعروة هذا هو الذي احتفر بئر عروة التي بالمدينة وهي منسوبة إليه وليس بالمدينة بئر أعزب من ماءها.

وكانت ولادته سنة اثنتين وعشرين، وقيل ست وعشرين للهجرة. وتوفي في قرية له بقرب المدينة يقال لها فرع - بضم الفاء وسكون الراء - وهي من ناحية الربذة، بينها وبين المدينة أربع ليال، وهي ذات نخيل ومياه، سنة ثلاث وتسعين، وقيل أربع وتسعين، ودفن هناك، قاله ابن سعد، وهي سنة الفقهاء، رضي الله عنهم، وسيأتي ذكر ولده هشام إن شاء الله تعالى.

وذكر العتبي أن المسجد الحرام جمع بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير وأخويه مصعب وعروة المذكور أيام تألفهم بعهد معاوية بن أبي سفيان، فقال بعضهم: هلم فلنتمنه، فقال عبد الله بن الزبير: منيتي أن أملك الحرمين وأنال الخلافة، وقال مصعب: منيتي أن أملك العراقين وأجمع بين عقيلتي قريش سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، وقال عبد الملك بن مروان: منيتي أن أملك الأرض كلها وأخلف معاوية، وقال عروة: لست في شيء مما أنتم فيه، منيتي الزهد في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة وأن أكون ممن يروى عنه هذا العلم، قال: فصرف الدهر من صرف إلا أن بلغ كل واحد منهم إلى أمله. وكان عبد الملك لذلك يقول: من شره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى عروة بن الزبير.