أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري، الملقب عماد الدين، المعروف بالكيا الهراسي الفقيه الشافعي؛ كان من أهل طبرستان، وخرج إلى نيسابور وتفقه على إمام الحرمين أبي المعالي الجويني مدة إلى أن برع، وكان حسن الوجه جهوري الصوت فصيح العبارة حلو الكلام، ثم خرج من نيسابور إلى بيهق ودرس بها مدة، ثم خرج إلى العراق وتولى تدريس المدرسة النظامية ببغداد إلى أن توفي.
وذكره الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي - المقدم ذكره - في " سياق تاريخ نيسابور " فقال: كان من رؤوس معيدي إمام الحرمين في الدرس. وكان ثاني أبي حامد الغزالي، بل آصل وأصلح وأطيب في الصوت والنظر، ثم اتصل بخدمة مجد الملك بركياروق بن ملك شاه السلجوقي - المذكور في حرف الباء - وحظي عنده بالمال والجاه وارتفع شأنه، وتولى القضاء بتلك الدولة، وكان محدثاً يستعمل الأحاديث في مناظراته ومجالسه. ومن كلامه: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهاب الرياح.
وحدث الحافظ أبو طاهر السلفي قال: استفتيت شيخنا أبا الحسن المعروف بالكيا الهراسي ببغداد في سنة خمس وتسعين وأربعمائة لكلام جرى بيني وبين الفقهاء بالمدرسة النظامية، وصورة الاستفتاء: " ما يقول الإمام وفقه الله تعالى في رجل أوصى بثلث ماله للعلماء والفقهاء، هل تدخل كتبة الحديث تحت هذه الوصية أم لا؟ " فكتب الشيخ تحت السؤال " نعم، كيف لا وقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم: من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً؟ " وسئل الكيا أيضاً عن يزيد بن معاوية فقال: إنه لم يكن من الصحابة لأنه ولد في أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وأما قول السلف ففيه لأحمد قولان تلويح وتصريح، ولمالك قولان تلويح وتصريح، ولأبي حنيفة قولان تلويح وتصريح، ولنا قول واحد التصريح دون التلويح وكيف لا يكون كذلك وهو اللاعب بالنرد والمتصيد بالفهود ومدمن الخمر، وشعره في الخمر معلوم، ومنه قوله:
أقول لصحبٍ ضمت الكأس شملهم |
|
وداعي صبابات الهوى يتـرنـم |
خذوا بنصيبٍ مـن نـعـيمٍ ولـذةٍ |
|
فكلٌ وإن طال المدى يتـصـرم |
ولا تتركوا يوم السرور إلى غـدٍ |
|
فرب غدٍ يأتي بما لـيس يعـلـم |
وكتب فصلاً طويلاً، ثم قلب الورقة وكتب: لو مددت ببياضٍ لمددت العنان في مخازي هذا الرجل؛ وكتب فلان بن فلان وقد أفتى الإمام أبو حامد الغزالي، رحمه الله تعالى، في مثل هذه المسألة بخلاف ذلك، فإنه سئل عمن صرح بلعن يزيد: هل يحكم بفسقه أم هل يكون ذلك مرخصاً فيه؟ وهل كان مريداً قتل الحسين، رضي الله عنه، أم كان قصده الدفع؟ وهل يسوغ الترحم عليه أم السكوت عنه أفضل؟ ينعم بإزالة الاشتباه مثاباً، فأجاب: لا يجوز لعن المسلم أصلاً، ومن لعن مسلماً فهو الملعون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم ليس بلعانٍ)، وكيف يجوز لعن المسلم ولا يجوز لعن البهائم وقد ورد النهي عن ذلك، وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنص النبي، صلى الله عليه وسلم. ويزيد صح إسلامه، وما صح قتله الحسين، رضي الله عنه، ولا أمره لا رضاه بذلك، ومهما لم يصح ذلك منه لا يجوز أن يظن ذلك به فإن إساءة الظن بالمسلم أيضاً حرام، وقد قال تعالى: (اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعد الظن، وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء)، ومن زعم أن يزيد أمر بقتل الحسين، رضي الله عنه، أو رضي به فينبغي أن يعلم به غاية حماقة، فإن من قتل من الأكابر والوزراء والسلاطين في عصره لو أراد أن يعلم حقيقة من أمر بقتله ومن الذي رضي به ومن الذي كرهه لم يقدر على ذلك، وإن كان قد قتل في جواره وزمانه وهو يشاهده، فكيف لو كان في بلد بعيد وزمن قديم قد انقضى، فكيف يعلم ذلك فيما انقضى عليه قريب من أربعمائة سنة في كان بعيد؟ وقد تطرق التعصب في الواقعة فكثرت فيها الأحاديث من الجوانب فهذا أمرٌ لا تعرف حقيقته أصلاً، وإذا لم يعرف وجب إحسان الظن بكل مسلم يمكن إحسان الظن به، ومع هذا فلو ثبت على مسلم أنه قتل مسلماً فمذهب الحق أنه ليس بكافر، والقتل ليس بكفر بل هو معصية، وإذا مات القاتل فربما مات بعد التوبة، والكافر لو تاب من كفره لم تجز لعنته، فكيف من تاب عن قتل؟ وبم يعرف أن قاتل الحسين رضي الله عنه، مات قبل التوبة؟ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده، فإذاً لا يجوز لعن أحد ممن مات من المسلمين، ومن لعنه كان فاسقاً عاصياً لله تعالى، ولو جاز لعنه فسكت لم يكن عاصياً بالإجماع، بل لو لم يلعن إبليس طول عمره لا يقال له يوم القيامة: لم لم تلعن إبليس، ويقال للاعن: لم لعنت؟ ومن أين عرفت أنه مطرود ملعون؟ والملعون وهو المبعد من الله عز وجل، وذلك غيب لا يعرف إلى فيمن مات كافراً فإن ذلك علم بالشرع، وأما الترحم عليه جائز، بل هو مستحب، بل هو داخل في قولنا في كل صلاة (اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات)، فإنه كان مؤمناً والله أعلم؛ كتبه الغزالي.
وكانت ولادة الكيا في ذي القعدة سنة خمسين وأربعمائة. وتوفي يوم الخميس وقت العصر مستهل المحرم سنة أربع وخمسمائة ببغداد، ودفن في تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، رحمه الله تعالى، وحضر دفنه الشيخ أبو طالب الزينبي وقاضي القضاة أبو الحسن ابن الدامغاني، وكان مقدمي الطائفة الحنفية، وكان بينه وبينهما في حال الحياة منافسة، فوقف أحدهما عند رأسه والأخر عند رجليه، فقال ابن الدامغاني متمثلاً:
وما تغني النوادب والبواكـي |
|
وقد أصبحت مثل حديث أمس |
وأنشد الزينبي متمثلاً أيضاً:
عقم النساء فما يلدن شبيهه |
|
إن النساء بمثله عـقـيم |
ولم أعلم لأي معنى قيل له الكيا، وفي اللغة العجمية الكيا هو الكبير القدر المقدم بين الناس، وهو بكسر الكاف وفتح الياء المثناة من تحتها وبعدها ألف. وكان في خدمته بالمدرسة النظامية أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان الغزي الشاعر المشهور - المقدم ذكره في حرف الهمزة - فرثاه إرتجالاً بهذه الأبيات على ما حكاه الحافظ ابن عساكر في تاريخه الكبير، وهي:
هي الحوادث لا تـبـقـي ولا تـذر |
|
ما للبرية من محـتـوفـهـا وزر |
لو كان ينجي علو مـن بـوائقـهـا |
|
لم تكسف الشمس بل لم يخسف القمر |
قل للجبان الذي أمسى علـى حـذرٍ |
|
من الحمام متى رد الردى الـحـذر |
بكى على شمسه الإسلام إذ أفـلـت |
|
بأدمعٍ قل في تشبيههـا الـمـطـر |
حبرٌ عهدناه طلق الوجه مبتـسـمـاً |
|
والبشر أحسن ما يلقى به الـبـشـر |
لئن طوته المنايا تحت أخمـصـهـا |
|
فعلمه الجم في الأفق مـنـتـشـر |
سقى ثراك عماد الدين كل ضـحـىً |
|
صوب الغمام ملث الودق منهـمـر |
عند الورى من أسىً أيقنتـه خـبـرٌ |
|
فهل أتك من استيحاشـهـم خـبـر |
أحيا ابن إدريس درسٌ كنـت تـورده |
|
تحار في نظمه الأذهان والـفـكـر |
من فاز منه بتعليقٍ فقـد عـلـقـت |
|
يمينه بـشـهـابٍ لـيس ينـكـدر |
كأنما مشكلات الفقـه يوضـحـهـا |
|
جباه دهمٍ لها من لـفـظـه غـرر |
ولو عرفت له مـثـلاً دعـوت لـه |
|
وقلت دهري إلى شرواه مفـتـقـر |