الحافظ ابن عساكر

الحافظ أبو القاسم علي بن أبي محمد الحسن بن هبة الله أبي الحسن بن عبد الله بن الحسين المعروف بابن عساكر،الدمشقي الملقب ثقة الدين كان محدث الشام في وقته، ومن أعيان الفقهاء الشافعية، غلب عليه الحديث فاشتهر به وبالغ في طلبه إلى أن جمع منه ما لم يتفق لغيره،ورحل وطوف وجاب البلاد ولقي المشايخ،وكان رفيق الحافظ أبي سعد عبد الكريم بن السمعاني في الرحلة، وكان حافظا دّيناً جمع بين معرفة المتون والأسانيد.

سمع ببغداد سنة عشرين وخمسمائة من أصحاب البرمكي والتنوخي والجوهري، ثم رجع إلى دمشق ثم رحل إلى خراسان ودخل نيسابور وهراة وأصبهان والجبال، وصنف التصانيف المفيدة وخرّج التخاريج. وكان حسن الكلام على الأحاديث، محظوظاً في الجمع والتأليف، صنف التاريخ الكبير لدمشق في ثمانين مجلدة، أتى فيه بالعجائب، وهو على نسق " تاريخ بغداد ". قال لي شيخنا الحافظ العلامة زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري حافظ مصر أدام الله به النفع، وقد جرى ذكر هذا التاريخ، وأخرج لي منه مجلداً وطال الحديث في أمره واستعظامه: ما أظن هذا الرجل إلى عزم على وضع هذا التاريخ من عقل على نفسه، وشرع في الجمع من ذلك الوقت، وإلا فالعمر يقصرعن أن يجمع فيه الإنسان مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبه. ولقد قال الحق، ومن وقف عليه عرف حقيقة هذا القول، ومتى يتسع للإنسان الوقت حتى يضع مثله؟ وهذا الذي ظهر هو الذي اختاره، وما صح له هذا إلا بعد مسودات ما يكاد ينضبط حصرها. وله غيره تواليف حسنة وأجزاء ممتعة، وله شعر لا بأس به، فمن ذلك قوله على ما قيل:

ألا إن الحديث أجـل عـلـمٍ

 

وأشرفه الأحاديث العوالـي

وأنفع كل نوعٍ منه عـنـدي

 

وأحسنه الفرائد في الأمالي

وإنك لن ترى للعـلـم شـيئاً

 

يحققه كأفـواه الـرجـال

فكن يا صاح ذا حرصٍ عليه

 

وخذه عن الرجال بلا ملال

ولا تأخذه من صحفٍ فترمى

 

من التصحيف بالداء العضال

 

ومن المنسوب إليه أيضاً:

أيا نفس ويحك جاء المشيب

 

فماذا التصابي وماذا الغزل

تولى شبابي كأن لـم يكـن

 

وجاء مشيبي كأن لـم يزل

كأني بنفسي علـى غـرةٍ

 

وخطب المنون بها قد نزل

فيا ليت شعري ممن أكون

 

وما قدر الله لـي بـالأزل

وقد التزم فيها مالا يلزم، وهو الزاي قبل اللام، والبيت الثاني هو بيت علي بن جبلة المعروف بالعكوك، وهو قوله:

شبابٌ كأن لم يكـن

 

وشيب كأن لم يزل

وليس بينهما إلا تغيير يسير كما تراه، وهذا البيت من جملة أبيات - وسيأتي ذكر قائله بعد هذا إن شاء الله تعالى.

وكانت ولادة الحافظ المذكور في أول المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة. وتوفي ليلة الاثنين الحادي عشر من رجب سنة إحدى وسبعين وخمسمائة بدمشق، ودفن عند والده وأهله بمقابر باب الصغير، رحمهم الله تعالى. وصلى عليه الشيخ قطب الدين النيسابوري - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وحضر الصلاة عليه السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى.

وتوفي ولده أبو محمد القاسم الملقب بهاء الدين ابن الحافظ في التاسع من صفر سنة ستمائة بدمشق، ودفن من يومه خارج باب النصر، ومولده بها ليلة النصف من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وخمسمائة، رحمه الله تعالى، وكان أيضاً حافظاً.

وتوفي أخوه الفقيه المحدث الفاضل صائن الدين هبة الدين بن الحسن بن هبة الله يوم الأحد الثالث والعشرين من شعبان سنة ثلاث وستين وخمسمائة بدمشق، ودفن من الغد بمقبرة باب الصغير، ومولده على ما ذكر أخوه الحافظ المذكور في العشر الأول من رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وقدم بغداد سنة عشرين وخمسمائة، وقرأ على أسعد الميهني - المقدم ذكره - وابن برهان، وعاد إلى دمشق، ودرس بالمقصورة الغربية في جامع دمشق وأفتى وحّدث، رحمه الله تعالى.