أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن معدان بن سفيان بن يزيد، مولى يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس الأموي، وجده يزيد أول من أسلم من أجداده، وأصله من فارس، وجده خلف أول من دخل الأندلس من آبائه. ومولده بقرطبة من بلاد الأندلس يوم الأربعاء قبل طلوع الشمس سلخ شهر رمضان سنة أربع وثمانين وثلثمائة في الجانب الشرقي منها.
وكان حافظاً عالماً بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة بعد أن كان شافعي المذهب، فانتقل إلى مذهب أهل الظاهر، وكان متفنناً في علوم جمة، عاملاً بعلمه، زاهداً في الدنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه من قبله في الوزارة وتدبير الممالك، متواضعاً ذا فضائل جمة وتواليف كثيرة، وجمع من الكتب في علوم الحديث والمصنفات والمسندات شيئاً كثيراً، وسمع سماعاً جماً، وألف في فقه الحديث كتاباً سماه " الإيصال إلى فهم كتاب الخصال الجامعة لحمل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام والسنة والإجماع " أورد فيه أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين، رضي الله عنهم أجمعين، في مسائل الفقه، والحجة لكل طائفة وعليها، وهو كتاب كبير، وله كتاب " الإحكام لأصول الأحكام " في غاية التقصي وإيراد الحجج، وكتاب " الفصل في الملل في الأهواء والنِّحل " وكتاب في الإجماع ومسائله على أبواب الفقه، وكتاب في مراتب العلوم وكيفية طلبها وتعلق بعضها ببعض، وكتاب " إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل وبيان تناقض ما بأيديهم من ذلك مما لا يحتمل التأويل " وهذا معنى لم يسبق إليه، كتاب " التقريب بحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية " فإنه سلك في بيانه وإزالة سوء الظن عنه وتكذيب الممخرقين به طريقة لم يسلكها أحد قبله، وكان شيخه في المنطق محمد بن الحسن المذحجي القرطبي المعروف بابن الكتاني، وكان أديباً شاعراً طبيباً له في الطب رسائل، وكتب في الأدب، ومات بعد الأربعمائة، ذكر ذلك ابن ماكولا في كتاب " الإكمال" في باب الكتامي والكتاني، نقلاً عن الحافظ أبي عبد الله الحميدي. وله كتاب صغير سماه " نقط العروس " جمع كل غريبة نادرة، وهو مفيد جداً.
وقال ابن بشكوال في حقه: كان أبو محمد أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفةً مع توسعه في علم اللسان ووفور حظه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار. أخبر ولده أبو رافع الفضل أنه اجتمع عنده بخط أبيه من تأليفه نحو أربعمائة مجلد، تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة.
وقال الحافظ أبو عبد الله محمد بن فتوح الحميدي: ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ وكرم النفس والتدين، وما رأيت من يقول الشعر على البديهة أسرع منه. ثم قال: أنشدني لنفسه:
لئن أصبحت مرتحلاً بجسمي |
|
فروحي عندكم أبداً مـقـيم |
ولكن للعيان لطيف معنـى |
|
له سأل المعاينة الـكـلـيم |
وله في المعنى:
يقول أخي شجاك رحيل جسمٍ |
|
وروحك ما له عنا رحـيل |
فقلت له: المعاين مطـمـئن |
|
لذا طلب المعاينة الخـلـيل |
وروى له الحافظ الحميدي أيضاً:
أقمنا ساعة ثـم ارتـحـلـنـا |
|
وما يغني المشوق وقوف ساعه |
كأن الشمل لم يك ذا اجتـمـاع |
|
إذا ما شتت البين اجتـمـاعـه |
وقال الحميدي أيضاً: أنشدني أبو محمد علي بن أحمد بن حزم - يعني المذكور - لعبد الملك بن جهور:
إن كانـت الأبـدان بـائنةً |
|
فنفوس أهل الظرف تأتلف |
يا رب مفترقين قد جمعت |
|
قلبيهما الأقلام والصحـف |
ومن شعره أيضاً:
وذي عذلٍ فيمن سباني حسنـه |
|
يطيل ملامي في الهوى ويقول |
أفي حسن وجهٍ لاح لم تر غيره |
|
ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل |
فقلت له أسرفت في اللوم ظالماً |
|
وعندي ردٌ لـو أردت طـويل |
ألم تر أني ظاهـري وأنـنـي |
|
على ما بدا حتى يقـوم دلـيل |
وكانت بينه وبين أبي الوليد سليمان الباجي -المذكور في حرف السين -مناظرات وما جرايات يطول شرحها، وكان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين، لا يكاد يسلم أحد من لسانه، فنفرت عنه القلوب واستهدف لفقهاء وقته، فتمالأوا على بغضه وردوا قوله واجمعوا على تضليله وشنعوا عليه وحذروا سلاطينهم من فتنته ونهوا عوامهم عن الدنو إليه والأخذ منه، فأقصته الملوك وشردته عن بلاده حتى انتهى إلى بادية لبلة فتوفي بها آخر نهار الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة،وقيل إنه توفي في منت ليشم، وهي قرية ابن حزم المذكور، رحمه الله تعالى.
وفيه قال أبو العباس ابن العريف - المقدم ذكره -: كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج بن يوسف شقيقين، وإنما قال ذلك لكثرة وقوعه في الأئمة.
وكانت وفاة والده أبي عمر أحمد في ذي القعدة سنة اثنتين وأربعمائة، وكان وزير الدولة العامرية، وهو من أهل العلم والأدب والخير والبلاغة، وقال ولده أبو محمد المذكور: أنشدني والدي الوزير في بعض وصاياه لي رحمه الله تعالى:
إذا شئت أن تحيا غنياً فلا تكن |
|
على حالةٍ إلا رضيت بدونها |
وذكر الحميدي في كتاب " جذوة المقتبس " أن الوزير المذكور كان جالساً بين يدي مخدومه المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر في بعض مجالسه العامة، فرفعت إليه رقعة استعطاف لأم رجل مسجون كان المنصور اعتقله حنقاً عليه لجرم استعظمه منه، فلما قرأها اشتد غضبه، وقال: ذكرتني والله به، وأخذ القلم وأراد أن يكتب: يصلب، فكتب: يطلق، ورمى الورقة إلى وزيره المذكور، وأخذ الوزير القلم وتناول الورقة وجعل يكتب بمقتضى التوقيع إلى صاحب الشرطة، فقال له المنصور: ما هذا الذي تكتب؟ قال: بإطلاق فلان، فحرد، وقال: من أمر بهذا؟ فناوله التوقيع، فلما رآه قال: وهمت، والله ليصلبن، ثم خط على التوقيع، وأراد أن يكتب " يصلب " فكتب " يطلق، فأخذ الوزير الورقة، وأراد أن يكتب إلى الوالي بالإطلاق، فنظر إليه المنصور وغضب أشد من الأول، وقال: من أمر بهذا؟ فناوله التوقيع، فرأى الخط، فخط عليه، وأراد أن يكتب " يصلب " فكتب " يطلق "، وأخذ الوزير التوقيع وشرع في الكتابة إلى الوالي، فرآه المنصور فأنكر أكثر من المرتين الأوليين، فأراه خطه بالإطلاق، فلما رآه عجب من ذلك، وقال: نعم يطلق على رغمي، فمن أراد الله سبحانه إطلاقه لا أقدر أنا على منعه وكان لأبي محمد ولد نبيه سريٌّ فاضل يقال له أبو رافع الفضل ابن أبي محمد علي، وكان في خدمة المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية وغيرها من بلاد الأندلس، وكان المعتمد قد غضب على عمه أبي طالب عبد الجبار بن محمد بن إسماعيل بن عباد وهمَّ بقتله لأمرٍ رابه منه، فاستحضر وزراءه وقال لهم: من يعرف منكم في الخلفاء أو ملوك الطوائف من قتل عمه عندما هم بالقيام عليه؟ فتقدم أبو رافع المذكور، وقال: ما نعرف أيدك الله إلا من عفا عن عمه بعد قيامه عليه، وهو إبراهيم بن المهدي عم المأمون من بني العباس، فقبله المعتمد بين عينيه وشكره، ثم أحضر عمه وبسطه وأحسن إليه. وقتل أبو رافع المذكور في وقعة الزلاقة مع مخدومه المعتمد في يوم الجمعة منتصف رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة - وقد استوفيت خبر هذه الواقعة في ترجمة يوسف بن تاشفين فلينظر هناك، وقد سبق ذكر إبراهيم بن المهدي في هذا الكتاب - والله أعلم.
ولبلة: بفتح اللامين، وبينهما باء موحدة ساكنة، وفي الأخير هاء ساكنة، بلدة بالأندلس.
ومنت ليشم: بفتح الميم وسكون النون وفتح التاء المثناة من فوقها وكسر اللام وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الشين المعجمة وفي آخرها ميم، وهي قرية من أعمال لبلة كانت ملك ابن حزم المذكور، وكان يتردد إليها.