القابسي

أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القروي، المعروف بابن القابسي؛ كان إماماً في علم الحديث ومتونه وأسانيده وجميع ما يتعلق به، وكان للناس فيه اعتقاد كثير، وصنف في الحديث كتاب " الملخص " جمع فيه ما اتصل إسناده من حديث مالك بن أنس، رضي الله عنه، في كتاب " الموطإ " رواية أبي عبد الله عبد الرحمن بن القاسم المصري، وهو على صغر حجمه جيد في بابه.

وكانت ولادة أبي الحسن المذكور في يوم الاثنين لست مضين من رجب سنة أربع وعشرين وثلثمائة، ورحل إلى الشرق يوم السبت لعشر مضين من شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة، وحج سنة ثلاث وخمسين، وسمع كتاب البخاري بمكة من أبي زيد، ورجع إلى القيروان فوصلها غداة الأربعاء أول شعبان أو ثانيه سنة سبع وخمسين كذا قاله أبو عبد الله مالك بن وهيب. وذكر الحافظ السلفي في " معجم السفر " أن شخصاً قال في مجلس القابسي وهو بالقيروان: ما قصر المتنبي في معنى قوله:

يراد من القلب نسيانكـم

 

وتأبى الطباع على الناقل

 

فقال له: يا مسكين أين أنت عن قوله تعالى: (لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون). وتوفي ليلة الأربعاء ثالث شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة، ودفن يوم الأربعاء وقت العصر بالقيروان، وبات عند قبره من الناس خلق عظيم، وضربت الأخبية، وأقبل الشعراء بالمراثي، رحمه الله تعالى.


ولما طعن في السن كان كثيراً ما ينشد قول زهير بن أبي سلمى المزني:

سئمت تكاليف الحياة، ومن يعش

 

ثمانين حولاً لا أبا لـك يسـأم

 

وقال أبو بكر الصقلي: قال لي أبو الحسن القابسي: كذب علي وعليك وسموني بالقابسي وما أنا بالقابسي، وإنما السبب في ذلك أن عمي كان يشد عمامته شدة قابسية فقيل لعمي " قابسي " واشتهرنا بذلك، وإلا فأنا قروي؛ وأنت، فلما دخل أبوك مسافراً إلى صقلية نسب إليها فقيل " الصقلي ". ومما سمع القاضي يقول أول جلوسه للمناظرة بأثر صوت أبي محمد:

لعمر أبيك ما نسب المعلى

 

إلى كرم وفي الدنيا كريم

ولكن البلاد إذا اقشعـرت

 

وصوح نبتها رعي الهشيم

 

ثم بكى حتى أبكى القوم وقال: أنا الهشيم أنا الهشيم، والله لو ان في الأرض خضراء ما رعيت أنا. وأبو محمد هذا أبو محمد عبد الله بن أبي هاشم التجيبي شيخه الذي روى عنه، وهو قروي. وقال أبو عمرو الداني: كان شيخنا أبو الحسن - يعني القابسي - يقرأ " الملخص " - بكسر الخاء - يجعله فاعلاً، يريد انه يلخص المتصل من حديث مالك، رحمه الله تعالى، وتقدير الترجمة: ما اتصل من حديث مالك للمستحفظين.


والقابسي: بفتح القاف وبعد الألف باء موحدة مكسورة ثم سين مهملة، هذه النسبة إلى قابس، وهي مدينة بإفريقية بالقرب من المهدية، ولما فتحها الأمير تميم بن المعز بن باديس - المقدم ذكره - قال ابن محمد خطيب سوسة قصيدة طائلة أولها:

ضحك الزمان وكان يدعى عابسـاً

 

لما فتحت بحد عزمك قـابـسـا

أنكحتها عذراء ما أصـدقـتـهـا

 

إلا قنـاً وبـواتـراً وفـوارسـا

الله يعلم ما جـنـيت ثـمـارهـا

 

إلا وكان أبوك قبلـك غـارسـا

من كان بالسمر العوالي خاطـبـاً

 

أضحت له بيض الحصون عرائسا