أبو الحسن علي بن هلال المعروف بابن البواب الكاتب المشهور؛ لم يوجد في المتقدمين ولا المتأخرين من كتب مثله ولا قاربه، وإن كان أبو علي ابن مقلة أول من نقل هذه الطريقة من خط الكوفيين، وأبرزها في هذه الصورة وله بذلك فضيلة السبق وخطه أيضاً في نهاية الحسن، لكن ابن البواب هذب طريقته ونقحها وكساها طلاوة وبهجة. وقيل إن صاحب الخط المنسوب المشهور ليس أبا علي المذكور، وإنما هو أخوه أبو عبد الله الحسن - وهو مذكور في ترجمة أخيه أبي علي المذكور في المحمدين فلينظر هناك - ولما شاهد أبو عبيد البكري الأندلسي صاحب التصانيف خط ابن مقلة أنشد:
خط ابن مقلة من أرعاه مقلتـه |
|
ودت جوارحه لو أصبحت مقلا |
والكل معترفون لأبي الحسن بالتفرد، وعلى منواله ينسجون، وليس فيهم من يلحق شأوه ولا يدعي ذلك، مع أن في الخلق من يدعي ما ليس فيه، ومع هذا فما رأينا ولا سمعنا أن أحداً ادعى ذلك، بل الجميع أقروا له بالسابقة وعدم المشاركة. ويقال له " ابن الستري أيضاً " لأن أباه كان بواباً والبواب ملازم ستر الباب، فلهذا نسب إليه.
وكان شيخه في الكتابة ابن أسدٍ الكاتب المشهور، وهو أبو عبد الله محمد بن أسد بن علي بن سعيد القارىء الكاتب البزاز البغدادي سمع أبا بكر أحمد بن سليمان النجاد وعلي بن محمد بن الزبير الكوفي وجعفر الخلدي وعبد الملك بن الحسن السقطي، وجماعة من هذه الطبقة، وكان صدوقاً؛ مات محمد بن أسد في يوم الأحد لليلتين خلتا من المحرم سنة عشر وأربعمائة، ودفن بالشونيزي.
وتوفي ابن البواب يوم الخميس ثاني جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ببغداد، ودفن جوار الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه.
وأنشدني بعض العلماء بيتين ذكر أنه رثي بهما ابن البواب وهما:
استشعر الكتاب فقدك سالفاً |
|
وقضت بصحة ذلك الأيام |
فلذاك سودت الدوي كـآبةً |
|
أسفاً عليك وشقت الأقلام |
وهذا معنى حسن جداً.
وسألني بعض الفقهاء بمدينة حلب عن قول بعض المتأخرين من جملة أبيات في صفة كتاب:
كتابٌ كوشي الروض خطت سطوره |
|
يد ابن هلالٍ عن فـم ابـن هـلال |
فقلت له: هذا يقول إن خطه في الحسن مثل خط ابن البواب وفي بلاغة ألفاظه مثل رسائل الصابىء، لأنه ابن هلال أيضاً - كما تقدم في ترجمته - ثم سألت الفقيه المذكور عن بقية الأبيات التي منها هذا البيت، فأنشدنيها، وهي:
ولما أتى منك الكتاب الـذي حـوى |
|
قلائد سـخـرٍ لـلـبـيان حـلال |
وقفت على ربعٍ من الفضـل آهـل |
|
وقوفي بـربـع لـلأحـبة خـال |
أرقرق من دمعي وأدمن لـثـمـه |
|
وأسأل أطلالاً تـجـيب سـؤالـي |
وهمت به حتى توهمت لـفـظـه |
|
نجـوم لـيالٍ أم سـمـوط لآلـي |
كتاب كوشي الروض خطت سطوره |
|
يد ابن هلال عن فـم ابـن هـلال |
ومما يتعلق بالكتابة أن أول من خط بالعربي إسماعيلٌ عليه السلام، والصحيح عند أهل العلم أنه مرامر بن مروة من أهل الأنبار، وقيل إنه من بني مرة، ومن الأنباء انتشرت الكتابة في الناس. قال الأصمعي: ذكروا أن قريشاً سألوا: من أين لكم الكتابة؟ فقالوا: من الحيرة، وقيل لأهل الحيرة: من أين لكم الكتابة؟ فقالوا: من الأنبار.
وروى ابن الكلبي والهيثم بن عدي أن الناقل لهذه الكتابة من الحيرة إلى الحجاز هو حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، وكان قدم الحيرة فعاد إلى مكة بهذه الكتابة، وقالا: قيل لأبي سفيان ابن حرب: ممن أخذ أبوك هذه الكتابة؟ فقال: من أسلم بن سدرة، وقال: سألت أسلم: ممن أخذت هذه الكتابة؟ فقال: من واضعها مرامر بن مرة، فحدوث هذه الكتابة قبل الإسلام بقليل. وكان لحمير كتابة تسمى المسند، وحروفها منفصلة غير متصلة، وكانوا يمنعون العامة من تعلمها، فلا يتعاطاها أحد إلا بإذنهم، فجاءت ملة الإسلام وليس بجميع اليمن من يقرأ ويكتب.
وجميع كتابات الأمم من سكان الشرق والغرب اثنتا عشرة كتابة، وهي: العربية والحميرية واليونانية والفارسية والسريانية والعبرانية والرومية والقبطية والبربرية والأندلسية والهندية والصينية، فخمس منها اضمحلت وبطل استعمالها وذهب من يعرفها، وهي: الحميرية واليونانية والقبطية والبربرية والأندلسية، وثلاث قد بقي استعمالها وعدم من يعرفها في بلاد الإسلام، وهي: الرومية والهندية والصينية، وحصلت أربع هي مستعملات في بلاد الإسلام وهي: العربية والفارسية والسريانية والعبرانية.