أبو الحسن علي بن جبلة بن مسلم بن عبد الرحمن، المعروف بالعكوك الشاعر المشهور؛ أحد فحول الشعراء المبرزين قال الجاحظ في حقه: كان أحسن خلق الله إنشاداً، ما رأيت مثله بدوياً ولا حضرياً وكان من الموالي وولد أعمى، وكان أسود أبرص، ومن مشهور شعره قوله:
بأبي من زارني مكتتـمـاً |
|
خائفاً من كل شيء جزعا |
زائرٌ نم علـيه حـسـنـه |
|
كيف يخفي الليل بدراً طلعا |
رصد الغفلة حتى أمكنـت |
|
ورعى السامر حتى هجعا |
ركب الأهوال في زروتـه |
|
ثم ما سلم حـتـى ودعـا |
ومن قوله في الحسن بن سهل:
أعطيتني يا ولي الحق مبتـدئاً |
|
عطيةً كافأت شعري ولم ترني |
ما شمت برقك إلا نلت ريقـه |
|
كأنما كنت بالجدوى تبادرنـي |
وله في أبي دلف العجلي وأبي غانم حميد بن عبد الحميد الطوسي غر المدائح، فمن قصائده الفائقة في أبي دلف القصيدة التي أولها:
ذاد ورد الغي عن صـدره |
|
فارعوى واللهو من وطره |
يقول في مدحها:
إنما الدنيا أبـو دلـفٍ |
|
بين مغزاه ومحتضره |
فإذا ولى أبـو دلـف |
|
ولت الدنيا على أثره |
ومنها:
كل من في الأرض من عربٍ |
|
بين بـاديه إلـى حـضـره |
مستعـيرٌ مـنـك مـكـرمةً |
|
يكتسيهـا يوم مـفـتـخـره |
وهي طويلة عددها ثمانية وخمسون بيتاً، ولولا خوف الإطالة لأثبتها كلها لأجل حسنها.
ولقد سئل شرف الدين بن عنين - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - وكان من أخبر الناس بنقد الشعر، عن هذه القصيدة وقصيدة أبي نواس الموازنة لها التي أولها:
أيها المنتاب من عفـره |
|
لست من ليلي ولا سمره |
وهي من نوادر الشعر أيضاً، فلم يفضل إحداهما عن الأخرى، وقال: ما يصلح أن يفاضل بين هاتين إلا شخصٌ يكون في درجة هذين الشاعرين.
ورأيت لأبي العباس المبرد كلاماً في وصف قصيدة أبي نواس المذكورة، فإنه قال بعد ذكر القصيدة: ما أحسب شاعراً جاهلياً ولا إسلامياً يبلغ هذا المبلغ فضلاً أن يزيد عليه جزالة وفخامة.
وقال محمد بن خلف بن محمد الطائي: قلت لعلي بن جبلة: عارضت أبا نواس بقصيدتك هذه " ذاد ورد الغي عن صدره " في قصيدته.
ويحكى أن العكوك مدح حميد بن عبد الحميد الطوسي بعد مدحه لأبي دلف بهذه القصيدة فقال له حميد: ما عسى أن تقول فينا وما أبقيت لنا بعد قولك في أبي دلف: إنما الدنيا أبو دلف... وأنشد البيتين، فقال: أصلح الله الأمير، قد قلت فيك ما هو أحسن من هذا، قال: وما هو؟ فأنشد:
إنما الدنيا حـمـيد |
|
وأياديه الجسـام |
فإذا ولى حـمـيد |
|
فعلى الدنيا السلام |
قال: فتبسم ولم يحر جواباً، فأجمع من حضر المجلس من أهل المعرفة والعلم بالشعر أن هذا احسن مما قاله في أبي دلف، فاعطاه وأحسن جائزته.
وحكي أنه مدح المأمون بقصيدة أجاد فيها وتوسل بحميد الطوسي في إيصالها إليه، فقال له المأمون: خيره بين أن نجمع بين قوله هذا وبين قوله فيك وفي أبى دلف، فإن وجدنا قوله فينا خيراً منه أجزناه عشرة آلاف، وإلا ضربناه مائة سوط، فخيره حميد فاختار الإعفاء.
وقال ابن المعتز في " طبقات الشعراء ": ولما بلغ المأمون خبر هذه القصيدة غضب غضباً شديداً وقال: اطلبوه حيثما كان وائتوني به، فطلبوه فلم يقدروا عليه لأنه كان مقيماً بالجبل، فلما اتصل به الخبر هرب إلى الجزيرة الفراتية، وقد كانوا كتبوا إلى الآفاق أن يؤخذ حيث كان، فهرب من الجزيرة حتى توسط الشامات، فظفروا به فأخذوه وحملوه مقيداً إلى المأمون، فلما صار بين يديه قال له: يا بن اللخناء، أنت القائل في قصيدتك للقاسم بن عيسى، وهو أبو دلف:
كل من في الأرض من عرب |
وأنشد البيتين، جعلتنا ممن يستعير المكارم منه والإفتخار به، قال: يا أمير المؤمنين: أنتم أهل بيت لا يقاس بكم لأن الله اختصكم لنفسه من عباده وآتاكم الكتاب والحكم وآتاكم ملكاً عظيماً، وإنما ذهب في قولي إلى أقران وأشكال القاسم بن عيسى من هذا الناس، فقال: والله ما أبقيت أحداً، ولقد أدخلتنا في الكل، وما استحل دمك بكلمتك هذه، ولكني استحله بكفرك في شعرك حيث قلت في عبد ذليل مهين فأشركت بالله العظيم وجعلت معه مالكاً قادراً وهو:
أنت الذي تنزل الأيام منزلهـا |
|
وتنقل الدهر من حال إلى حال |
وما مددت مدى طرفٍ إلى أحد |
|
إلا قضيت بـأرزاق وآجـال |
ذاك الله عز وجل يفعله، أخرجوا لسانه من قفاه، فأخرجوا لسانه من قفاه فمات، وكان ذلك في سنة ثلاث عشرة ومائتين ببغداد. ومولده سنة ستين ومائة، وقيل إنه أصابه الجدري وهو ابن سبع سنين فذهب بصره منه، وهذا خلاف ما قيل في الأول.
قلت: هكذا ذكر ابن المعتز هذه القصة، وكذلك قال أيضاً أبو الفرج الأصبهاني في كتاب " الأغاني "، ورأيت في كتاب " البارع في أخبار الشعراء المولدين تأليف أبي عبد الله ابن المنجم هذين البيتين مع بيت ثالث، وهو:
تزور سخطاً فتمسي البيض راضيةً |
|
وتستهل فتبكـي أعـين الـمـال |
لخلف بن مرزوق مولى علي بن ريطة، والله أعلم بالصواب.
ومن مديحه حميداً قوله:
تكفل ساكني الدنيا حمـيدٌ |
|
فقد أضحوا له فيها عيالاً |
كأن أباه آدم كان أوصى |
|
إليه أن يعولهم فـعـالا |
وقوله أيضاً فيه:
دجلة تسقـي وأبـو غـانـمٍ |
|
يطعم من تسقي من النـاس |
فالناس جسمٌ وإمـام الـهـدى |
|
رأس، وأنت العين في الراس |
ولما مات حميد في يوم عيد الفطر سنة عشر ومائتين رثاه بقصيده من جملتها:
فأدبنا ما أدب الناس قبلـنـا |
|
ولكنه لم يبق للصبر موضع |
ورثاه أبو العتاهية بقوله:
أبا غانم أمـا ذراك فـواسـعٌ |
|
وقبرك معمور الجوانب محكم |
وما ينفع المقبور عمران قبره |
|
إذا كان فيه جسمـه يتـهـدم |
وأخبار العكوك كثيرة، ونقتصر منها على هذا القدر.
والعكوك: بفتح العين المهملة والكاف وتشديد الواو وبعدها كاف ثانية، وهو السمين القصير مع صلابة، رحمه الله تعالى.
وجبلة: بفتح الجيم والباء الموحدة واللام وبعدها هاء ساكنة.
وأما حميد الطوسي فإن الطبري ذكر في تاريخه تاريخ وفاته كما ذكرته ها هنا، وغالب ظني أنه توفي بفم الصلح، لأنه كان مع المأمون لما توجه إليها للدخول على بوران، حسب ما شرحته في ترجمتها في هذا التاريخ.