القاضي التنوخي

أبو القاسم علي بن محمد بن أبي الفهم داود بن إبراهيم بن تميم بن جابر بن هانئ بن زيد بن عبيد بن مالك بن مريط بن سرح بن نزار بن عمرو بن الحارث بن صبح بن عمرو بن الحارث، وهو أحد ملوك تنوخ الأقدمين، ابن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة، التنوخي، الأنطاكي؛ كان عالماً بأصول المعتزلة والنجوم، قال الثعالبي في حقه: " هو من أعيان أهل العلم والأدب، وأفراد الكرم وحسن الشيم، وكان كما قرأته في فصل للصاحب بن عباد: إن أردت فإني سبحة ناسك، وإن أحببت فإني تفاحة فاتك، أو اقترحت فإني مدرعة راهب، أو آثرت فإني تحية شارب ". وكان تقلد قضاء البصرة والأهواز بضع سنين، وحين صرف عنه ورد حضرة سيف الدولة بن حمدان زائراً ومادحاً، فأكرم مثواه واحسن قراه، وكتب في معناه إلى الحضرة ببغداد حتى أعيد إلى عمله، وزيد في رزقه ورتبته. وكان الوزير المهلبي وغيره من رؤساء العراق يميلون إليه ويتعصبون له ويعدونه ريحانة الندماء، وتاريخ الظرفاء، وكان في جملة الفقهاء والقضاة الذين ينادمون الوزير المهلبي، ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على اطراح الحشمة والتبسط في القصف والخلاعة، وهم:القاضي أبو بكر ابن قريعة وابن معروف والتنوخي المذكور وغيرهم، وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها، وكذلك كان المهلبي، فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس ولذ السماع وأخذ الطرب منهم مأخذه، وهبوا ثوب الوقار للعقار، وتقلبوا في أعطاف العيش بين الخفة والطيش، ووضع في يد كل واحد منهم طاس ذهب فيه ألف مثقال، مملوءٌ شراباً قطربلياً أو عكبرياً، فيغمس لحيته فيه بل ينقعها حتى تتشرب أكثره ويرش بها بعضهم بعضاً ويرقصون بأجمعهم وعليهم المصبغات ومخانق المنثور والبرم، فإذا أصبحوا عادوا كعادتهم في التوقر والتحفظ بأبهة القضاء وحشمة المشايخ الكبراء. وأورد من شعره قوله:

وراحٍ من الشمس مخلوقةٌ

 

بدت لك في قدحٍ من نهار

هواءٌ ولـكـنـه جـامـدٌ

 

وماءٌ ولكنه غـير جـار

كأن المدير لها بالـيمـين

 

إذا مال للسقي أو باليسار

تدرع ثوباً من الياسـمـين

 

له فرد كمٍ من الجلـنـار

 

وأورد له أيضاً:

بأبي حسنك لو أش

 

بهه منك صنـيع

أنت بدرٌ ما له في

 

فلك الوصل طلوع

 

وأورد له:

رضاك شبابٌ لا يليه مشـيب

 

وسخطك داء ليس منه طبيب

كأنك في كل النفوس مركبٌ

 

فأنت إلى كل النفوس حبيب

 

وذكر له شيئاً كثيراً غير هذا.


وقال المسعودي في كتاب "مروج الذهب ": وقد عارض أبو القاسم التنوخي المذكور أبا بكر ابن دريد في مقصورته، وذكر منها أبياتاً، ومدح فيها تنوخ وقومه من قضاعة.


وقال غيره: حكى أبو محمد الحسن بن عسكر الصوفي الواسطي قال: كنت ببغداد في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة جالساً على دكة بباب أبرز للفرجة إذ جاء ثلاث نسوة فجلسن إلى جانبي، فأنشدت متمثلاً:

هواءٌ ولكنه جـامـد

 

وماء ولكنه غير جار

 

وسكت، فقالت إحداهن: هل تحفظ لهذا البيت تماماً؟ فقلت: ما أحفظ سواه، فقالت: أن أنشدك أحدٌ تمامه وما قبله ماذا تعطيه؟ فقلت: ليس لي شيء أعطيه، ولكني أقبل فاه، فأنشدتني الأبيات المذكورة، وزادت بعد البيت الأول:

إذا ما تأملتها وهـي فـيه

 

تأملت نوراً محيطاً بنـار

فهذا النهاية في الابيضاض

 

وهذا النهاية في الاحمرار

فحفظت الأبيات منها، فقالت لي: أين الوعد؟ تعني التقبيل، أرادت مداعبتي بذلك.

وقال الخطيب: إنه ولد بأنطاكية يوم الأحد لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثمان وسبعين ومائتين، وقدم بغداد وتفقه بها على مذهب الإمام أبي حنيفة، رضي الله عنه، وسمع الحديث وكان معتزلياً. وتوفي بالبصرة يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وثلثمائة، رحمه الله تعالى. ودفن من الغد في تربة اشتريت له، بشارع المربد - وسيأتي ذكر ولده المحسّن في حرف الميم إن شاء الله تعالى - وكل واحد منهما له ديوان شعر.