علي بن الجهم

أبو الحسن علي بن الجهم بن بدر بن الجهم بن مسعود بن أسيد بن أذينة بن كرار بن كعب بن جابر بن مالك بن عتبة بن جابر بن الحارث بن قطن بن مدلج بن قطن بن أحزم بن ذهل بن عمرو بن مالك بن عبيدة بن الحارث بن سامة ابن لؤي بن غالب القرشي السامي الشاعر المشهور؛ أحد الشعراء المجيدين، هكذا ساق الخطيب في" تاريخ بغداد " نسبه في ترجمة والده الجهم، وذكره أيضاً في ترجمة مفردة، فقال: له ديوان شعر مشهور، وكان جيد الشعر عالماً بفنونه، وله اختصاصٌ بجعفر المتوكل، وكان متديناً فاضلاً؛ انتهى كلامه.

وكان - مع انحرافه عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وإظهاره التسنن - مطبوعاً مقتدراً على الشعر عذب الألفاظ. وكان من ناقلة خراسان إلى العراق ثم نفاه المتوكل إلى خراسان في سنة اثنتين وثلاثين، وقيل تسع وثلاثين ومائتين، لأنه هجا المتوكل، وكتب إلى طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين أنه إذا ورد عليه صلبه يوماً، فوصل إلى شاذياخ نيسابور، فحبسه طاهر ثم أخرجه فصلبه مجرداً نهاراً كاملاً، فقال في ذلك:

لم ينصبوا بالشاذياخ صبيحة ال

 

إثنين مسبوقاً ولا مجـهـولا

نصبوا بحمد الله ملء قلوبهـم

 

شرفاً وملء صدورهم تبجيلا

 

وهي أبيات كثيرة مشهورة، ثم رجع إلى العراق ثم خرج إلى الشام، وبعد ذلك ورد على المستعين كتاب من صاحب البريد بحلب أن علي بن الجهم خرج من حلب متوجهاً إلى العراق، فخرجت عليه وعلى جماعة معه خيل من بين كلب، فقاتلهم قتالاً شديداً، ولحقه الناس وهو جريح بأخر رمق، فكان مما قال:

أزيد في الليل لـيل

 

أم سال بالصبح سيل

ذكرت أهل دجـيلٍ

 

وأين منـي دجـيل

 

وكان منزله ببغداد في شارع الدجيل، وكان ورود الكتاب في شعبان سنة تسع وأربعين ومائتين، وتوفي في وقته، ولما نزعت ثيابه بعد موته وجدت فيها رقعة وقد كتب فيها:

يا رحمتا للغريب في البلد الن

 

ازح ماذا بنفسه صـنـعـا

فارق أحبابه فما انتـفـعـوا

 

بالعيش من بعده ولا انتفعـا

 

 وكانت بينه وبين أبي تمام مودة أكيدة، وإليه كتب أبو تمام الأبيات التي يودعه فيها التي أولها:

هي فرقة من صاحب لك ماجد

 

فغداً إراقة كل دمع جـامـد

 

وديوان شعره صغير، فمنه قوله وهو معنى مليح:

بلاء لـيس يعـدلـه بـــلاء

 

عداوة غير ذي حـسـب ودين

يبيحك منه عرضاً لم يصـنـه

 

ويرتع منك في عرض مصون

 

وهذان البيتان قالهما في مروان بن أبي حفصة لما عمل فيه:

لعمرك ما الجهم بن بدر بشاعـر

 

وهذا عليٌ بعده يدعي الشعـرا

ولكن أبي قد كان جـاراً لأمـه

 

فلما ادعى الأشعار أوهمني أمرا

 

وهذا المعنى مأخوذ من قول كثير عزة، وقد أنشد الفرزدق شعراً له فاستحسنه فقال له: يا أبا صخر، هل كانت أمك ترد البصرة؟ فقال: لا، ولكن أبي كثيراً ما يردها.
وله وقد حبس أبياته المشهورة التي أولها:

قالت حبست فقلت ليس بضائري

 

حبسي، وأي مهنـد لا يغـمـد

 

وهي أبيات جيدة في هذا المعنى لم يعمل مثلها، ولولا طولها لذكرتها.
وله أيضاً:

يا ذا الذي بعذابي ظل مفتـخـرا

 

هل أنت إلا مليك جار إذ قـدرا

لولا الهوى لتجارينا علـى قـدر

 

فإن أفق منه يوماً ما فسوف ترى

 

وله أشياء حسنة.

 

والسامي: بفتح السين المهملة وبعد الألف ميم، هذه النسبة إلى سامة بن لؤي المذكور في نسبه، ويتصحف على كثير من الناس بالشامي، بالشين المعجمة، وهو غلط.


ودجيل: بضم الدال المهملة وفتح الجيم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها لام - تصغير دجلة، تصغير ترخيم - وهو نهر بأعلى بغداد، مخرجه من دجلة، مقابل القادسية في الجانب الغربي بين تكريت وبغداد، عليه مدن وقرى، وهو غير دجيل الأهواز، وهو أيضاً نهر عليه قرى ومدن ومخرجه من جهة أصبهان، حفره أردشير بن بابك بن ساسان أول ملوك الفرس.


??ابن الرومي أبو الحسن علي بن العباس بن جريج، وقيل جورجيس، المعروف بابن الرومي، مولى عبيد الله بن عيسى بن جعفر بن المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنه؛ الشاعر المشهور صاحب النظم العجيب، والتوليد الغريب، يغوص على المعاني النادرة فيستخرجها من مكامنها ويبرزها في أحسن صورة، ولا يترك المعنى حتى يستوفيه إلى آخره ولا يبقي فيه بقية، وكان شعره غير مرتب، ورواه عنه المسيبي، ثم عمله أبو بكر الصولي ورتبه على الحروف، وجمعه أبو الطيب وراق ابن عبدوس من جميع النسخ، فزاد على كل نسخة مما هو على الحروف وغيرها نحو ألف بيت. وله القصائد المطولة والمقاطيع البديعة، ولو في الهجاء كل شيء ظريف، وكذلك في المديح، فمن ذلك قوله:

المنعمون وما منوا على أحـدٍ

 

يوم العطاء ولو منوا لما مانوا

كم ضن بالمال أقوامٌ وعندهـم

 

وفر، وأعطى العطـايا يدان

 

وله أيضاً، وقال: ما سبقني إلى هذا المعنى أحد:

آراؤكم ووجوهكم وسيوفـكـم

 

في الحادثات إذا دجون نجوم

منها معالم للهدى ومصـابـح

 

تجلو الدجى والأخريات رجوم

 

ومن معانيه البديعة قوله:

وإذا امرؤ مدح امرءاً لنواله

 

وأطال فيه فقد أراد هجاءه

لو لم يقدر فيه بعد المستقـى

 

عند الورود لما أطال رشاءه

 

وكذلك قوله في ذم الخضاب، قال أبو الحسين جعفر بن علي الحمداني: ما سبقه أحد إلى هذا المعنى:

إذا دام للمرء السواد وأخلقت

 

شبيبته ظن السواد خضابـا

فكيف يظن الشيخ أن خضابه

 

يظن سواداً أو يخال شبابـا

 

وقوله:

كم يعد القرن باللقـاء وكـم

 

يكذب في وعده ويخلـفـه

لا يعرف القرن وجهه ويرى

 

قفاه من فرسخٍ فيعـرفـه

أخذ هذا المعنى الأخير من قول الخارجي وقد قال المنصور: أي أصحابنا أشد إقداماً في مبارزتكم؟ فقال: ما أعرف وجوههم ولكن أعرف أقفاءهم، فقل لهم يقبلوا فأعرفهم.

وقال رجل لابن الرومي وهو يمازحه: ما أنت والشعر وقد نلت منه حظاً جسيماً وأنت من العجم؟ أراك عربياً أو مدعياً في الشعر، قال: بل أنت دعي إذ كنت تنسب عربياً ولا تحسن من ذلك شيئاً، وأنشده:  

إياك يا ابـن بـويب

 

أن يستثـار بـويب

قد تحسن الروم شعراً

 

ما أحسنته العـريب

 

وكان كثير الطيرة، وربما أقام المدة الطويلة لا يتصرف تطيراً لسوء ما يراه أو يسمعه حتى إن بعض إخوانه من الأمراء افتقده وعرف بحاله في الطيرة فبعث إليه خادماً اسمه إقبال ليتفاءل به، فلما أخذ أهبة ركوبه قال للخادم: انصرف إلى مولاك.


وله في بعض الرؤساء وقد سأله حاجة فقضاها له وكان لا يتوقع منه خيراً:

سألتك في أمر فجـدت بـبـذلـه

 

على أني ما خلت أنك تـفـعـل

وألزمتني بالبـذل شـكـراً وإنـه

 

علي من الحرمان أدهى وأعضل

وما خلت أن الدهر يثني بصرفـه

 

إلى أن أرى في الناس مثلك يسأل

لئن سرني ما نلت منـك فـإنـه

 

لقد ساءني إذ أنت ممـن يؤمـل

 

وهذه الأبيات تنسب إلى ابن وكيع التنيسي أيضاً - وقد سبق ذكره واسمه الحسن - والله أعلم.


وبالجملة فإن محاسنه كثيرة فلا حاجة إلى الإطالة. وكانت ولادته يوم الأربعاء بعد طلوع الفجر لليلتين خلتا من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين ببغداد، في الموضع المعروف بالعقيقية ودرب الختلية في دار بإزاء قصر عيسى بن جعفر بن المنصور، وفي بغداد يقول وقد غاب عنها في بعض أسفاره:

بلد صحبت به الشبيبة والصبـا

 

ولبست ثوب العيش وهو جديد

فإذا تمثل في الضمير رأيتـه

 

وعليه أغصان الشباب تمـيد

 

وتوفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين، وقيل أربع وثمانين، وقيل ست وسبعين ومائتين ببغداد ودفن في مقبرة باب البستان، وكان سبب موته، رحمه الله تعالى، أن الوزير أبا الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير الإمام المعتضد كان يخاف من هجوه وفلتات لسانه بالفحش، فدس عليه ابن فراس، فأطعمه خشكنانجة مسمومة وهو في مجلسه، فلما أكلها أحس بالسم فقام، فقال له الوزير: إلى أين تذهب، فقال: إلى الموضع الذي بعثتني إليه، فقال له: سلم على والدي، فقال: ما طريقي على النار؛ وخرج من مجلسه وأتى منزله وأقام أياماً ومات. وكان الطبيب يتردد إليه ويعالجه بالأدوية النافعة للسم، فزعم أنه غلط في بعض العقاقير؛ قال إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي المعروف بنفطويه: رأيت ابن الرومي يجود بنفسه فقلت: ما حالك؟فأنشد:

غلط الطبيب علي غلطة موردٍ

 

عجزت موارده عن الإصدار

والناس يلحون الطبيب وإنمـا

 

غلط الطبيب إصابة المقـدار

 

وقال أبو عثمان الناجم الشاعر: دخلت على ابن الرومي أعوده فوجدته يجود بنفسه، فلما قمت من عنده قال لي:

أبا عثمان أنت حميد قومـك

 

وجودك للعشيرة دون لومك

تزود من أخيك فـمـا أراه

 

يراك ولا تراه بعد يومـك

 

وكان الوزير المذكور عظيم الهيبة شديد الإقدام سفاكاً للدماء، وكان الكبير والصغير منه على وجلٍ لا يعرف أحدٌ من أرباب الأموال معه نعمة. وتوفي الوزير المذكور عشية الأربعاء لعشر خلون من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين ومائتين في خلافة المكتفي، وعمره نيف وثلاثون سنة، وفي ذلك يقول عبد الله بن الحسن بن سعد:

شربنا عشية مات الـوزير

 

سروراً، ونشرب في ثالثه

فلا رحم الله تلك العظـام

 

ولا بارك الله في وارثـه

 

وكان لهذا الوزير أخ يقال له أبو محمد الحسن، فمات في حياة أبيه والوزير، فعمل أبو الحارث النوفلي، وقيل البسامي وهو الأصح - وسيأتي ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى - ثم رأيت في " الذيل " للسمعاني في ترجمة علي بن مقلد بن عبد الله بن كرامة البواب أن أبا الحارث النوفلي قال: كنت أبغض القاسم بن عبيد الله لمكروه نالني منه، فلما مات أخوه الحسن قلت على لسان ابن بسام، وأنشد هذه الأبيات، وقال السمعاني قبل هذا الكلام: قال أبو بكر الصولي النديم: وقد رأيت أبا الحارث هذا، وكان رجلاً صدوقاً، وهي هذه:

قل لأبي القاسم الـمـرزا

 

قابلك الدهر بالعـجـائب

مات لك ابنٌ وكـان زينـاً

 

وعاش ذو الشين والمعايب

حياة هذا كـمـوت هـذا

 

فلست تخلو من المصايب

وعمل آخر في المعنى أيضاً ولا أعرفه، ثم وجدت هذه الأبيات له أيضاً:  

قل لأبي القاسم المـرزا

 

ونادِ يا ذا المصيبـتـين

مات لك ابنٌ وكان زينـاً

 

وعاش شين وأي شـين

حياة هذا كـمـوت هـذا

 

فالطم على الرأس باليدين