الفقيه عمارة اليمني

الفقيه أبو محمد عمارة بن أبي الحسن علي بن ريدان بن أحمد الحكمي اليمني، الملقب نجم الدين، الشاعر المشهور؛ نقلت من بعض تواليفه أنه من قحطان، ثم الحكم بن سعد العشيرة المذحجي، وأن وطنه من تهامة باليمن مدينة يقال لها مرطان من وادي وساع وبعدها من مكة في مهب الجنوب أحد عشر يوماً، وبها مولده ومرباه، وأنه بلغ الحلم سنة تسع وعشرين وخمسمائة، ورحل إلى زبيد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، فأقام بها يشتغل بالفقه في بعض مدارسها مدة أربع سنين، وأنه حج سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وسيره قاسم بن هاشم ابن فليتة صاحب مكة شرفها الله تعالى رسولاً إلى الديار المصرية، فدخلها في شهر ربيع الأول سنة خمسين وخمسمائة، وصاحبها يومئذ الفائز بن الظافر، والوزير الصالح ابن رزيك - المذكور في حرف الطاء -وأنشدهما في تلك الدفعة قصيدته الميمية، وهي:

الحمد للعيس بعد العزم والهـمـم

 

حمداً يقوم بما أولت من النـعـم

لا أجحد الحق عندي للركـاب يدٌ

 

تمنت اللجم فيها رتبة الخـطـم

قربن بعد مزار العز من نظـري

 

حتى رأيت إمام العصر من أمـم

ورحن من كعبة البطحاء والحرم

 

وفداً إلى كعبة المعروف والكرم

فهل درى البيت أني بعد فرقتـه

 

ما سرت مـن حـرمٍ إلا حـرم

حيث الخلافة مضروبٌ سرادقهـا

 

بين النقيضين من عفو ومن نقـم

ولـلإمـامة أنـوارٌ مـقــدسة

 

تجلو البغيضين من ظلم ومن ظلم

وللنـبـوة آيات تـنـص لـنـا

 

على الخفيين من حكم ومن حكم

وللمكارم أعـلامٌ تـعـلـمـنـا

 

مدح الجزيلين من بأس ومن كرم

وللعلا ألسنٌ تثني مـحـامـدهـا

 

على الحميدين من فعل ومن شيم

وراية الشرف البذاخ ترفـعـهـا

 

يد الرفيعين من مجدٍ ومن همـم

أقسمت بالفائز المعصوم معتقـداً

 

فوز النجاة وأجر البر في القسـم

لقد حمى الدين والدنيا وأهلهـمـا

 

وزيره الصالح الفراج للغـمـم

اللابس الفخر لم تنسج غـلائلـه

 

إلا يد الصنعين السيف والقـلـم

وجوده أوجد الأيام ما اقتـرحـت

 

وجوده أعدم الشاكين لـلـعـدم

قد ملكته العوالي رق مـمـلـكة

 

تعير أنف الثريا عزة الـشـمـم

أرى مقاماً عظيم الشأن أوهمنـي

 

في يقظتي أنها من جملة الحلـم

يوم من العمر لم يخطر على أملي

 

ولا ترقت إليه رغبة الـهـمـم

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمهـا

 

عقود مدح فما أرضى لكم كلمي

ترى الوزارة فيه وهـي بـاذلة

 

عند الخلافة نصحاً غير متـهـم

عواطف علمتنا أن بـينـهـمـا

 

قرابة من جميل الرأي لا الرحم

خليفة ووزير مد عـدلـهـمـا

 

ظلاً على مفرق الإسلام والأمم

زيادة النيل نقص عند قبضهـمـا

 

فما عسى نتعاطى مـنة الـديم

 

فاستحسنا قصيدته وأجزلا صلته، وأقام إلى شوال من سنة خمسين في أرغد عيش وأعز جانب، ثم فارق مصر في هذا التاريخ وتوجه إلى مكة ومنها إلى زبيد في صفر سنة إحدى وخمسين، ثم حج من عامه فأعاده قاسم صاحب مكة المذكور في رسالة إلى مصر مرة ثانية، فاستوطنها ولم يفارقها بعد ذلك.


ورأيت في كتابه الذي جعله تاريخ اليمن أنه فارق بلاده في شعبان سنة اثنتين وخمسين، وكان فقيهاً شافعي المذهب شديد التعصب للسنة، أديباً ماهراً شاعراً مجيداً محادثاً ممتعاً، فأحسن الصالح وبنوه وأهله إليه كل الإحسان، وصحبوه مع اختلاف العقيدة لحسن صحبته، وله في الصالح وولده مدائح كثيرة - وقد تقدم طرفٌ من خبره في ترجمة شاور السعدي والصالح، وما رثاه به - وكانت بينه وبين الكامل بن شاور صحبة متأكدة قبل وزارة أبيه، فلما وزر استحال عليه، فكتب إليه:

 

إذا لم يسالمك الزمـان فـحـارب

 

وباعد إذا لم تنتـفـع بـالأقـارب

ولا تحتقر كيداً ضعيفاً فـربـمـا

 

تموت الأفاعي من سمام العقارب

فقد هد قدماً عرش بلقيس هـدهـدٌ

 

وخرب فأر قبل ذا سـد مـأرب

إذا كان رأس المال عمرك فاحترز

 

عليه من الإنفاق في غير واجـب

فبين اختلاف الليل والصبح معرك

 

يكر علينا جيشه بـالـعـجـائب

وما راعني غدر الشباب لأنـنـي

 

أنست بهذا الخلق من كل صاحب

وغدر الفتى في عـهـده ووفـائه

 

وغدر المواضي في نبو المضارب

 

ومنها:

إذا كان هذا الدر معدنـه فـمـي

 

فصونوه عن تقبيل راحة واهـب

رأيت رجالاً أصبحت في مـآدب

 

لديكم وحالي وحدها في نـوادب

تأخرت لما قدمتـهـم عـلاكـم

 

علي وتأبى الأسد سبق الثعالـب

ترى أين كانوا في مواطني التـي

 

غدوت لكم فيهـن أكـرم نـائب

ليالي أتلو ذكركم في مـجـالـس

 

حديث الورى فيها بغمز الحواجب

 

وزالت دولة المصريين وهو في البلاد.


ولما ملك السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، مدحه ومدح جماعة من أهل بيته، يتضمن ديوانه جميع ذلك، وكتب إلى صلاح الدين قصيدة متضمنة شرح حاله وضرورته، وسماها " شكاية المتظلم ونكاية المتألم " وهي بديعة، ورثى أصحاب القصر عند زوال ملكهم بقصيدة لامية طويلة أجاد فيها، وغالب شعره جيد.


ثم إنه شرع في أمور وأسباب من الاتفاق مع جماعة من رؤساء البلد على التعصب للمصريين وإعادة لدولتهم، فأحس بهم السلطان صلاح الدين، وكانوا ثمانية من الأعيان ومن جملتهم الفقيه عمارة المذكور، وشنقهم في يوم السبت ثاني شهر رمضان سنة تسع وستين وخمسمائة بالقاهرة، رحمهم الله تعالى، وكان قبضهم يوم الأحد السادس والعشرين من شعبان من السنة.


وله تواليف منها كتاب " أخبار اليمن " وفيه فوائد، ومنها " النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية " وغير ذلك.


وقال العماد الأصبهاني في كتاب " الخريدة ": إنه صلب في جملة الجماعة الذين نسب إليهم التدبير عليه، يعني السلطان صلاح الدين، ومكاتبة الفرنج واستدعاؤهم إليه، حتى يجلسوا ولداً للعاضد، وكانوا أدخلوا معهم رجلاً من الأجناد ليس من أهل مصر، فحضر عند صلاح الدين وأخبره بما جرى، فأحضرهم فلم ينكروا الأمر ولم يروه منكراً، فقطع الطريق على عمر عمارة، وأعيض بخرابه عن العمارة، ووقعت اتفاقات عجيبة، فمن جملتها أنه نسب إليه بيت من قصيدة ذكروا أنه يقول فيها:

قد كان أول هذا الدين من رجل

 

سعى إلى أن دعوه سيد الأمم

 ويجوز أن يكون البيت معمولاً عليه، فأفتى فقهاء مصر بقتله، وحرضوا السلطان على المثلة بمثله، ومنها أنه كان في النوبة التي لا تقال عثرتها، ولا يحترم الأديب فيها ولو أنه في سماء النظم والنثر نثرتها، ومنها أنه كان قد هجا أميراً فعد ذلك من كبائره، وجرى عليه الردى في جرائره؛ ثم قال في آخر ترجمته: والعجب من عمارة أنه تأبى في ذلك المقام عن الانتماء إلى القوم وترك، وغطى القدر على بصره حتى أراد أن يتعصب لهم ويعيد دولتهم فهلك؛ وإنما قال العماد هذا لأجل الأبيات التي كتبها الصالح بن رزيك يرغبه في التشيع، وهي في الورقة التي هي قربها.

والمذحجي: بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة وبعدها جيم، هذه النسبة إلى مذحج، واسمه مالك بن أدد بن زيد بن يشجب، وإنما قيل له مذحج لأنه ولد على أكمة حمراء باليمن يقال لها مذحج فسمي بها، وقيل غير ذلك، والله أعلم.