أبو الحسن علي بن محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات وزير المقتدر بالله بن المعتضد بالله، وزر له ثلاث دفعات، فالأولى منهن بثمان خلون من شهر ربيع الأول، وقيل لسبع بقين منه، سنة ست وتسعين ومائتين، ولم يزل وزيره إلى أن قبض عليه الأربع خلون من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين ونكبه ونهب داره وأمواله، واستغل من أملاكه إلى أن عاد إلى الوزارة في المرة الثانية سبعة آلاف ألف دينار، وذكروا عنه أنه كتب إلى الأعراب أن يكبسوا بغداد، والله أعلم. ثم عاد إلى الوزارة يوم الاثنين لثمان خلون من ذي الحجة سنة أربع وثلثمائة، وخلع عليه سبع خلع، وحمل إليه ثلثمائة ألف درهم لغلمانه وخمسون بغلاً لثقله وعشرون خادماً وغير ذلك من العدد والآلات، وزاد في ذلك اليوم في ثمن الشمع في كل من قيراط ذهب لكثرة استعماله إياه، وكان ذلك النهار شديد الحر، فسقي في ذلك النهار وتلك الليلة في داره أربعون ألف رطل ثلج، ولم يزل على وزارته إلى أن قبض عليه يوم الخميس لثلاث بقين من جمادى الأول سنة ست وثلثمائة، ثم عاد إلى الوزارة يوم الخميس لسبع ليال بقين من ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثلثمائة، وكان يوم خرج من الحبس مغتاظاً، فصادر الناس، وأطلق يد ولده المحسن فقتل حامد بن العباس الوزير الذي كان قبل أبيه، وسفك الدماء، ولم يزل وزيراً إلى أن قبض عليه لتسع ليلي خلون من شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشر وثلثمائة، وقيل قبض عليه يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر ربيع الأول.
وكان يملك أموالاً كثيرة تزيد على عشرة آلاف ألف دينار، وكان يستغل من ضياعه في كل سنة ألفي ألف دينار ينفقها، قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي: مدحته بقصيدة، فحصل لي في ذلك اليوم ستمائة دينار.
وكان كاتباً كافياً خبيراً، قال الإمام المعتضد بالله لعبيد الله بن سليمان: قد دفعت إلى ملك مختل وبلاد خراب ومال قليل، وأريد أعرف ارتفاع الدنيا لتجري النفقات عليه، فطلب عبيد الله ذلك من جماعة من الكتاب، فاستمهلوه شهراً، وكان أبو الحسن ابن الفرات وأخوه أبو العباس محبوسين منكوبين، فأعلما بذلك، فعملاه في يومين وأنفذاه، فعلم عبيد الله أن ذلك لا يخفى على المعتضد، فكلمه فيهما ووصفهما،فاصطنعهما.
وكانت في دار أبي الحسن ابن الفرات حجرة شراب يوجه الناس على اختلاف طبقاته إليها غلمانهم يأخذون منها الأشربة والفقاع والجلاب إلى دورهم.
وكان يجري الرزق على خمسة آلاف من أهل العلم والدين والبيوت والفقراء أكثرهم مائة درهم في الشهر، وأقله خمسة دراهم، وما بين ذلك. قال الصولي: ومن فضائله التي لم يسبق إليها أنه كان إذا رفع إليه قصة فيها سعاية خرج من عنده غلام فنادى: أين فلان بن فلان الساعي؟ فلما عرف الناس ذلك من عادته امتنعوا من السعاية بأحد، واغتاظ يوماً من رجل فقال: اضربوه مائة صوت، ثم أرسل رسولاً فقال: اضربوه خمسين، ثم أرسل أخر وقال: لا تضربوه، وأعطوه عشرين ديناراً، فكفاه ما مر به المسكين من الخوف. قال الصولي: قام من مرضه - وقد اجتمعت الكتب والرقاع عنده - فنظر في ألف كتاب، ووقع في ألف رقعة، فقلنا له: بالله لا يسمع بهذا أحد، خوفاً من العين عليه.
قال الصولي: ورأيت من أدبه أنه دعا خاتم الخلافة ليختم به كتاباً، فلما رآه قام على رجليه تعظيماً للخلافة، قال: ورأيته جالساً للمظالم، فتقدم إليه خصمان في دكاكين في الكرخ، فقال لأحدهما: رفعت إلي قصة في سنة اثنتين وثمانين ومائتين في هذه الدكاكين، ثم قال: سنك يقصر عن هذا، فقال له: ذاك كان أبي، قال: نعم وقعت له على قصة رفعها.
وكان إذا مشى الناس بين يديه غضب وقال: أنا لا أكلف هذا غلماني فكيف أكلف أحراراً لا إحسان لي عليهم.
وقتل نازوك صاحب الشرطة أبا الحسن ابن الفرات المذكور وابنه المحسن يوم الاثنين ثلاثة عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة اثني عشر وثلثمائة. وقال بعض المؤرخين: كان مولده لتسع خلون من ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين ومائتين، وكان عمر ابنه المحسن يوم قتل ثلاثاً وثلاثين سنة.
قال الصاحب أبو القاسم ابن عباد المقدم ذكره: أنشدني أبو الحسن ابن أبي بكر العلاف - وهو المشهور بكثرة الأكل - قصيدة أبيه أبي بكر في الهر وقال: إنما كنى بالهر عن المحسن بن أبي الحسن ابن الفرات أيام محنتهم، لأنه لم يجسر أن يذكره يرثيه. قلت: وقد سبق ذكر المرثية في ترجمة أبي بكر العلاف.
ومن غرائب الأخبار أن زوجة المحسن ابن الفرات أرادت أن تختن أبنها بعد قتل أبيه فرأت المحسن في منامها، فذكرت له تعذر النفقه، فقال لها: إن لي عند فلان عشرة آلاف دينار أودعته إياها، فانتبهت، وأخبرت أهلها فسألوا الرجل فأعترف وحمل المال عن آخره.
وكان أبو العباس أحمد بن محمد بن الفرات أخو أبي الحسن المذكور أكتب أهل زمانه وأضبطهم للعلوم والآداب، وللبحتري فيه القصيدة التي أولها:
بت أبدي وجداً وأكتم وجـدا
لخيال قد بات لي منك يهدى
وتوفي أبو العباس المذكور يوم الثلاثاء منتصف شهر رمضان سنة إحدى وتسعين ومائتين.
وأما أخوه أبو الخطاب جعفر بن محمد بن الفرات فإنه عرضت عليه الوزارة فأباها.
وتولاها ابنه أبو الفتح الفضل بن جعفر، وكان كاتباً مجوداً، وهو المعروف بابن حنزابة، وهي أمه، وكانت جارية رومية، قلده المقتدر الوزارة يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الآخر سنة عشرين وثلثمائة وقيل خلع عليه في أول شهر ربيع الآخر سنة عشرين وثلثمائة، والله أعلم ولم يزل وزيره إلى أن قتل المقتدر لأربع بقين من شوال سنة عشرين وثلثمائة، وتولى الخلافة أخوه القاهر بالله، فاستتر أبو الفتح ابن حنزابة، فولى القاهر أبا علي محمد بن علي بن مقلة الكاتب - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - الوزارة، ثم تولى أبو الفتح الدواوين في أيام القاهر أيضاً، وخلع القاهر وسملت عيناه في يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة.
وولي الخلافة الراضي بالله ابن المقتدر بالله المقدم ذكره، فقلد أبا الفتح ابن حنزابة الشام، فتوجه إليها، ثم إن الراضي بالله ولاه الوزارة، وهو يومئذ مقيم بحلب، وعقد له الأمر فيها يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان سنة خمس وعشرين وثلثمائة، وكوتب بالمسير إلى الحضرة، فوصل إلى بغداد يوم الخميس لست خلون من شوال من السنة، فأقام ببغداد قليلاً، فرأى الأمور مضطربة، وقد استولى الأمير أبو بكر محمد بن رائق على الحضرة، فتحدث أبو الفتح مع ابن رائق في أنه يعود إلى الشام، وأطمعه في حمل الأموال إليه من مصر والشام، فعاد إليها في الثالث عشر من شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين، فأدركه أجله بغزة، وقيل بالرملة، وجاءت الكتب إلى الحضرة بموته في يوم الأحد لثمان خلون من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وقيل ست وعشرين والأول أصح ودفن في داره بالرملة. وكان مولده في ليلة السبت لسبع ليال بقين من شعبان سنة تسع وسبعين ومائتين، وكانت الكتب تصدر باسمه في الشام.
وأما ابنه أبو الفضل جعفر بن الفضل فقد سبق ذكره في حرف الجيم من هذا الكتاب، وتاريخ وفاته ومولده، رحمهم الله تعالى أجمعين.
وهذا الذي ذكرته في هذه الترجمة نقلته من عدة مواضع: منها كتاب " أخبار الوزراء " تأليف الصاحب ابن عباد، وكتاب " عيون السير " تأليف محمد بن عبد الملك الهمداني، وكتاب " الوزراء " تأليف أبي عبد الله محمد بن أحمد الفارسي وما منهم أحد تعرض إلى قضية عبد الله بن المعتز.
وترجمة ابن الفرات المذكور تترتب على قضية ابن المعتز فلا بد من ذكر شيء من أحوالها، وأصح التواريخ نقلاً تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، فنذكر ما قاله في حوادث سنة ست وتسعين ومائتين: إن القواد والكتّاب اجتمعوا على خلع الخليفة المقتدر، وتناظروا فيمن يجعلونه موضعه، فأجمعوه رأيهم على عبد الله بن المعتز، وناظروه في ذلك، فأجابهم إليه على أنه لا يكون في ذلك سفك دم ولا حرب، فأخبروه أن الأمر يسلم إليه عفواً، وأن جميع من وراءهم من الجند والقواد والكتاب قد رضوا، فبايعهم على ذلك، وكان الرأس في ذلك محمد بن داود بن الجراح وأبا المثنى أحمد بن يعقوب القاضي، وواطأ محمد بن داود جماعة من القواد على الفتك بالمقتدر والعباس بن الحسن؛ قلت: وكان وزير المقتدر يومئذ.
قال الطبري: وكان العباس بن الحسن على ذلك قد واطأ جماعة من القواد على خلع المقتدر والبيعة لعبد الله بن المعتز، فلما رأى أمره مستوسقاً له مع المقتدر على ما يحب بدا له فيما كان قد عزم عليه من ذاك، فحينئذ وثب به الآخرون فقتلوه، يعني الوزير المذكور، وقال الطبري: وكان الذي تولى قتله بدر الأعجمي والحسين بن حمدان ووصيف بن صوارتكين، وذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول، ولما كان من غد هذا اليوم، وهو يوم الأحد، خلع المقتدر الكتاب والقواد وقضاة بغداد، وبايعوا عبد الله بن المعتز ولقبوه الراضي بالله، وكان الذي يأخذ البيعة على القواد ويلي استحلافهم والدعاء بأسمائهم محمد بن سعيد الأزرق كاتب الجيش. وفي هذا اليوم كانت بين الحسين بن حمدان وبين غلمان الدار حرب شديدة من غدوة إلى انتصاف النهار، وفي هذا اليوم انفضت الجموع التي كان ابن داود جمعها لبيعة ابن المعتز عنه، وذلك أن الخادم الذي يدعى مؤنساً حمل غلاماً من غلمان الدار في الشذوات - قلت: وهي عندهم المراكب - قال: فصاعد بها وهم فيها وهي في دجلة، فلما جاوزوا الدار التي فيها ابن المعتز ومحمد بن داود صاحوا بهم ورشقوهم بالنشاب، فتفرقوا وهرب من كان في الدار من الجند والقواد والكتاب وهرب ابن المعتز، ولحق بعض الذين بايعوا ابن المعتز بالمقتدر، فاعتذروا إليه بأنهم منعوا من المصير إليه، واستخفى بعضهم، فطلبوا وأخذوا وقتلوا وانتبهت العامة دور ابن داود، وأخذ ابن المعتز فيمن أخذ؛ انتهى كلام الطبري في ذلك.
فنذكر ما قال غيره، جمعته من مواضع متفرقة، حاصله أن عبد الله بن المعتز رتب للوزارة في ذلك اليوم محمد بن داود المذكور، وللقضاء أبا المثنى المذكور، فلما انتقض أمره وأخذ ابن المعتز استتر ابن داود، وكان من فضلاء أهل عصره وله عدة تصانيف منها كتاب " الورقة في أخبار الشعراء وكتاب " الوزراء " وغير ذلك، ثم ظهر لمؤنس الخادم المذكور، وخافه أبو الحسن علي ابن الفرات المذكور، فأشار على مؤنس بقتله، فقتل وأخرج وطرح في سقاية عند المأمونية، فحمل إلى منزله، وكان قتله في شهر ربيع الآخر من السنة، ومولده في سنة ثلاث وأربعين ومائتين في الليلة التي توفي فيها إبراهيم ابن العباس الصولي المقدم ذكره.
ولما عاد أمر المقتدر إلى ما كان عليه وقد قتل وزيره العباس بن الحسن في التاريخ الذي ذكره الطبري استوزر أبا الحسن علي بن الفرات المذكور، فأول ما ظهر من محاسنه أنه حمل إليه من دار ابن المعتز صندوقان عظيمان، فقال: أعلمتم ما فيهما؟ قيل: نعم، جرائد بأسماء من بايعه، فقال: لا تفتحوهما، ودعا بنار فطرح الصندوقين فيها، فلما احترقا قال: لو فتحتهما وقرأت ما فيهما فسدت نيات الناس بأجمعهم علينا، واستشعروا منا، ومع ما فعلناه قد هدأت القلوب وسكنت النفوس.
ومما يتعلق بهذه الترجمة أن القاهر بالله لما خلع وسملت عيناه كما ذكرناه آل به الأمر إلى أن خرج إلى جامع المنصور ببغداد، فعرف الناس بنفسه، وسألهم التصدق عليه، فقام إليه ابن أبي موسى الهاشمي فأعطاه ألف درهم، وفي ذلك عبرة لأولي الألباب. وقد سبق ذكر عبد الله بن المعتز في ترجمته، لكن هذه الحاجة دعت إلى إعادتها ها هنا.
ونقلت من كتاب " الأعيان والأمائل " تأليف الرئيس أبي الحسن هلال بن المحسن بن أبي إسحاق إبراهيم الصابي: وحدث القاضي أبو الحسين عبيد الله بن عباس أن رجلاً اتصلت عطلته، وانقطعت مادته، فزور كتاباً من أبي الحسن ابن الفرات إلى أبي زنبور المادرائي عامل مصر في معناه يتضمن الوصاة به والتأكيد في الإقبال عليه والإحسان إليه، وخرج إلى مصر فلقيه به، فارتاب أبو زنبور في أمره لتغير الخطاب على ما جرت به العادة وكون الدعاء ألين مما يقتضيه محله،فرعاه مراعاة قريبة ووصله بصلة قليلة، واحتبسه عنده على وعد وعده به، وكتب إلى أبي الحسن ابن الفرات يذكر الكتاب الوارد عليه، وأنفذه بعينه إليه واستثبته فيه، فوقف ابن الفرات على الكتاب المزور، فوجد فيه ذكر الرجل وأنه من ذوي الحرمات والحقوق الواجبة عليه، وما يقال في ذلك مما قد استوفي الخطاب فيهن وعرضه على كتابه وعرفهم الصورة فيه، وعجب إليهم منها ومما أقدم عليه الرجل، وقال لهم: ما الرأي في أمر هذا الرجل عندكم؟ فقال بعضهم: تأديبه أو حبسه، وقال آخر: قطع إبهامه لئلا يعاود مثل هذا أو يقتدي به غيره فيما هو أكثر من هذا، وقال أجملهم محضراً: يكشف لأبي زنبور قصته ويرسم له طرده وحرمانه، فقال ابن الفرات: ما أبعدكم عن الخيرية والحرية وأنفر طباعكم منها! رجلٌ توسل بنا وتحمل المشقة إلى مصر في تأميل الصلاح بجاهنا، واستمداد صنع الله عز وجل بالانتساب إلينا، يكون أحسن أحواله عند أحسنكم محضراً تكذيب ظنه وتخييب سعيه، والله لا كان هذا أبداً! ثم إنه أخذ القلم من دواته وكتب على الكتاب المزور " هذا كتأبي، ولست أعلم لم أنكرت أمره، واعترضتك شبهة فيه، وليس كل من خدمنا وأوجب حقاً علينا تعرفه، وهذا رجل خدمني في أيام نكبتي، وما أعتقده في قضاء حقه أكثر مما كلفتك في أمره من القيام به، فأحسن تفقده ووفر رفده وصرفه فيما يعود عليه نفعه ويصل إلينا فيما يحقق ظنه ويبين موقعه " ورده إلى أبي زنبور من يومه، فلما مضت على ذلك مدة طويلة دخل على أبي الحسن ابن الفرات رجل ذو هيئة مقبولة وبزة جميلة، وأقبل يدعو له ويثني عليه ويبكي يده وويقبل الأرض، فقال له ابن الفرات: من أنت بارك الله فيك؟ وكانت هذه كلمته، فقال: صاحب الكتاب المزور إلى أبي زنبور الذي صححه كرم الوزير وتفضله، فعل الله به وصنع، فضحك ابن الفرات وقال: كم وصل إليك منه؟ قال: وصل إلي من ماله وتقسط قسطه على عماله ومعامليه وعمل صرفني فيه عشرون ألف دينار، فقال ابن الفرات: الحمد لله، الزمنا، فإنا نعرضك إلى عمل يزداد به صلاح هالك، ثم اختبره فوجده كاتباً سديداً، فاستخدمه وأكسبه مالاً جزيلاً، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
والفرات: بضم الفاء وبعد الراء ألف وبعدها تاء مثناة من فوقها.
ونازوك: بالنون وبعد الألف زاء مضمومة وبعد الواو كاف.