تقي الدين صاحب حماة

الملك الظفر تقي الدين أبو سعيد عمر بن نور الدولة شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة، وهو ابن أخي السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى - وقد تقدم ذكر أبيه في حرف الشين؛ كان شجاعاً مقداماً منصوراً في الحروب مؤيداً في الوقائع ومواقفه مشهورة مع الفرنج. وكانت له آثار في المصافات دلت عليها التواريخ، وله في أبواب البر كل حسنة، منها: مدرسة منازل العز التي بمصر، يقال إنها كانت دار سكنه، فوقف عليها وقفاً كثيراً وجعلها مدرسة. وكانت الفيوم وبلادها إقطاعه، وله بها مدرستان: شافعية ومالكية، وعليهما وقفٌ جيد أيضاً، وبنى بمدينة الرها مدرسة لما كان صاحب البلاد الشرقية، وكان كثير الإحسان إلى العلماء والفقراء وأرباب الخير.

وناب عن عمه صلاح الدين بالديار المصرية في بعض غيباته عنها، فإن الملك العادل كان نائباً عن أخيه السلطان صلاح الدين بالديار المصرية، فلما حاصر الكرك في سنة تسع وسبعين وخمسمائة في رجب طلب أخاه من مصر بالعساكر، وسير إليها تقي الدين في العشر الوسط من شعبان من السنة نائباً عنها، ثم استدعاه إليه بالشام، ورتب بالديار المصرية ولده الملك العزيز عثمان - المقدم ذكره - ومعه الملك العادل، فشق ذلك على تقي الدين وعزم على دخوله بلاد المغرب ليفتحها، فقبح أصحابه عليه ذلك، فامتثل قول عمه صلاح الدين وحضر إلى خدمته. وخرج السلطان التقاه بمرج الصفر، واجتمعا هناك في الثالث والعشرين من شعبان سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، وفرح به وأعطاه حماة، فتوجه إليها وتوجه إلى قلعة منازكرد من نواحي خلاط ليأخذها، فحاصرها مدة، وتوفي عليها يوم الجمعة تاسع عشر شهر رمضان، سنة سبع وثمانين وخمسمائة وقيل بل توفي ما بين خلاط وميافارقين، ونقل إلى حماة، ودفن بها.

وترتب مكانه ولده الملك المنصور ناصر الدين أبو المعالي محمد بن عمر، ومات يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي القعدة سنة سبع عشرة وستمائة بحماة، رحمهما الله تعالى.

ورأيت بخطي في مسوداتي أن تقي الدين مولده سنة أربع وثلاثين وخمسمائة.

قال ابن شداد في " السيرة ": لما كان يوم الجمعة حادي عشر شوال سنة سبع وثمانين وخمسمائة ركب السلطان إلى جهة العدو وأشرف عليهم، ثم عاد وأمرني بالإشارة إلى الملك العادل بأن يحضر معه علم الدين سليمان بن جندر وسابق الدين بن الداية وعز الدين بن المقدم؛ فلما مثلت بين يديه الجماعة بخدمته، أمر بإخلاء المكان من غير المذكورين وإبعاد الناس عن الخيمة، وكنت من جملة الحاضرين؛ فأخرج كتاباً من قبائه وفضه ووقف عليه، ففاضت دموعه وغلبه النحيب والبكاء حتى وافقناه من غير أن نعلم السبب في ذلك، ثم ذكر انه يتضمن وفاة الملك المظفر تقي الدين، رحمه الله تعالى، فاستأنف الحاضرون البكاء عليه والأسف، ثم ذكرته الله تعالى وعرفته ما يجب من الانقياد لقضائه وقدره فقال: أستغفر الله، إنا لله وإنا إليه راجعون؛ ثم قال: من المصلحة كتمان ذلك وإخفاؤه لئلا يتصل بالعدو ونحن منازلوه. ثم أمر بإحضار الطعام وأطعم الجماعة وانفصلوا من بين يديه. وكانت وفاته في طريق خلاط عائداً إلى ميافارقين، فحمل ميتاً إلى ميافارقين، وعملت له تربة ومدرسة مشهورة بأرض حماة، وحمل إليها ودفن بها وزرته بها. وكانت وفاته يوم الجمعة تاسع شهر رمضان سنة سبع وثمانين وخمسمائة. وذكر قبل هذا: لما كان يوم الأحد الحادي والعشرين من شهر رمضان - يعني من السنة - وصل كتاب من الديوان العزيز ينكر قصد الملك المظفر تقي الدين إلى جهة خلاط وفيه معاتبة نائبه بسبب بكتمر ويشفع فيه وفي حسن بن قفجاق وأن يتقدم بإطلاقه - وكان مظفر الدين قد قبض عليه بإربل - وأن يسير القاضي الفاضل إلى الديوان لبت حال، فسير الكتاب إلى القاضي الفاضل ليقف عليه ويكتب إلى الملك المظفر بما رسم فيه. ثم عاد ابن شداد إلى هذا الكلام في كتاب آخر بعد هذا التاريخ وقال: كان الجواب عن تقي الدين: إنا لم نأمره إلى التعريض ببكتمر صاحب اخلاط وإنما عبر ليجمع العساكر للجهاد ويعود، فاتفقت أسباب اقتضت ذلك وقد أمرنا بالعود عنه؛ وعن ابن قفجاق بأن قد عرفتم حال ابن قفجاق وما يتصدى له من الفساد في الأرض وانه قد تقدم إلى مظفر الدين بإحضاره معه إلى الشام ليقطعه فيه ويكون ملازماً للجهاد؛ وعن الثالث بالاعتذار عن القاضي الفاضل بأن قوته تضعف عن الحركة إلى العراق؛ هذا حاصل الجواب.