أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي المعروف بالجاحظ، البصري العالم المشهور؛ صاحب التصانيف في كل فن، له مقالة في أصول الدين، وإليه تنتسب الفرقة المعروفة بالجاحظية من المعتزلة، وكان تلميذ أبي إسحاق إبراهيم بن سيار البلخي المعروف بالنظام المتكلم المشهور، وهو خال يموت بن المزرع - الآتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى - ومن أحسن تصانيفه وأمتعها كتاب " الحيوان " فلقد جمع كل غريبة، وكذلك كتاب " البيان والتبين " وهي كثيرة جداً. وكان من فضائله مشوه الخلق، وإنما قيل له " الجاحظ " لأن عينيه كانتا جاحظتين، والجحوظ: النتو، وكان يقال له أيضاً " الحدقي " لذلك.
ومن جملة أخباره أنه قال: ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده، فلما رآني استبشع منظري فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني، فخرجت من عنده فلقيت محمد بن إبراهيم وهو يريد الانصراف إلى مدينة السلام، فعرض علي الخروج معه والانحدار في حراقته وكنا بسر من رأى، فركبنا في الحراقة، فلما انتهينا إلى فم نهر القاطول نصب ستارةً وأمر بالغناء، فاندفعت عوادة فغنت:
كل يوم قـطـيعةٌ وعـتـــاب |
|
ينقضي دهرنا ونحن غـضـاب |
ليت شعري أنا خصصت بـهـذا |
|
دون ذا الخلق أم كذا الأحـبـاب |
وسكتت، فأمر الطنبورية فغنت: |
|
|
ورحمتاه للعاشقينا |
|
ما إن أرى لـهـم مـعـينــا |
كم يهـجـرون ويصـرمـــو |
|
ن ويقطعـون فـيصـبـرونـا |
قال: فقالت لها العوادة: فيصنعون ماذا؟ قالت: هكذا يصنعون، وضربت بيدها إلى الستارة فهتكتها وبرزت كأنها فلقة قمر، فألقت نفسها في الماء، وعلى رأس محمد غلام يضاهيها في الجمال، وبيده مذبة، فأتى الموضع ونظر إليها وهي تمر بين الماء، وأنشد:
أنت التي غرقتنـي |
|
بعد القضا لو تعلمينا |
وألقى نفسه في أثرها، فأدار الملاح الحراقة، فإذا بهما معتنقان ثم غاصا فلم يريا،فاستعظم محمد ذلك وهاله أمره، ثم قال: يا عمرو، لتحدثني حديثا يسليني عن فعل هذين، وإلا الحقتك بهما، قال: فحضرني حديث يزيد بن عبد الملك، وقد قعد للمظالم يوماً وعرضت عليه القصص، فمرت به قصة فيها: " إن رأى أمير المؤمنين أن يخرج إلي جاريته فلانة حتى تغنيني ثلاثة أصوات فعل "، فاغتاظ يزيد من ذلك، وأمر من يخرج إليه ويأتيه برأسه، ثم أتبع الرسول برسول آخر يأمره أن يدخل إليه الرجل، فأدخله، فلما وقف بين يديه قال له: ما لذي حملك على ما صنعت؟ قال: الثقة بحلمك والاتكال على عفوك، فأمره بالجلوس حتى لم يبق أحد من بني أمية إلا خرج، ثم أمر فأخرجت الجارية ومعها عودها، فقال لها الفتى غني:
أفاطم مهلاً بعـض هـذا الـتـدلـل |
|
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي |
فغنته، فقال له يزيد: قل، فقال: غني:
تألق البرق نجدياً فقـلـت لـه |
|
يا أيها البرق إني عنك مشغول |
فغنته، فقال له يزيد: قل، قال: تأمر لي برطل شراب، فأمر له، فما استتم شربه حتى وثب وصعد على أعلى قبة ليزيد، فرمى نفسه على دماغه فمات، فقال يزيد: إنا لله وإنا إليه راجعون، أتراه الأحمق الجاهل ظن أني أخرج إليه جاريتي وأردها إلى ملكي، يا غلمان خذوا بيدها واحملوها إلى أهله إن كان له أهل، وإلا فبيعوها وتصدقوا بثمنها عليه. فانطلقوا بها إلى أهله، فلما توسطت الدار نظرت إلى حفيرة في وسط دار يزيد قد أعدت للمطر فجذبت نفسها من أيديهم، وأنشدت:
من مات عشقاً فليمت هكذا |
|
لا خير في عشق بلا موت |
وألقت نفسها في الحفيرة على دماغها فماتت. فسري عن محمد وأجزل صلتي. وقال أبو القاسم السيرافي: حضرنا مجلس الأستاذ أبي الفضل ابن العميد الوزير - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - فجرى ذكر الجاحظ، فغض منه بعض الحاضرين وأزرى به، وسكت الوزير عنه، فلما خرج الرجل قلت له: سكت أيها الأستاذ عن هذا الرجل في قوله مع عادتك في الرد على أمثاله، فقال: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله، ولو وافقته وبينت له لنظر في كتبه وصار بذلك إنساناً يا أبا القاسم، فكتب الجاحظ تعلم العقل أولاً والأدب ثانياً، ولم أستصلحه لذلك. وكان الجاحظ في أواخر عمره قد أصابه الفالج، فكان يطلي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدة حرارته، والنصف الأيسر لو قرض بالمقاريض لما أحس به من خدره وشدة برده. وكان يقول في مرضه: اصطلحت على جسدي الأضداد. إن أكلت بارداً أخذ برجلي، وأن أكلت حاراً أخذ برأسي. وكان يقول: أما من جانبي الأيسر مفلوج فلو قرض بالمقاريض ما علمت به، ومن جانبي الأيمن منقرسٌ فلو مر به الذباب لألمت، وبي حصاة لا ينسرح لي البول معها وأشد ما علي ست وتسعون سنة، وكان ينشد:
أترجو أن تكون وأنت شيخٌ |
|
كما قد كنت أيام الشبـاب |
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب |
|
دريسٌ كالجديد من الثياب |
وحكى بعض البرامكة قال: كنت تقلدت السند، فأقمت بها ما شاء الله، ثم اتصل بي إني صرفت عنها، وكنت كسبت بها ثلاثين ألف دينار، فخشيت أن يفجأني الصارف فيسمع بمكان المال فيطمع فيه، فصغته عشرة آلاف إهليلجة في كل إهليلجة ثلاثة مثاقيل؛ ولم يمكث الصارف أن أتى، فركبت البحر وانحدرت إلى البصرة، فخبرت أن الجاحظ بها وأنه عليل بالفالج، فأحببت أن أراه قبل وفاته، فسرت إليه، فأفضيت إلى باب دار لطيف فقرعته فخرجت إلي خادمة صفراء فقالت: من أنت؟ قلت: رجل غريب وأحب أن أسر بالنظر إلى الشيخ فبلغته الخادم ما قلته، فسمعته يقول: قولي له وما تصنع بشق مائل ولعاب سائل ولون حائل، فقلت للجارية: لابد من الوصول إليه، فلما بلغته قال: هذا رجل قد اجتاز بالبصرة وسمع بعلتي فقال: أراه قبل موته لأقول: قد رأيت الجاحظ، ثم أذن لي فدخلت فسلمت عليه ورد رداً جميلاً، وقال: من تكون أعزك الله؟ فانتسبت له، فقال: رحم الله أسلافك وآباءك السمحاء الأجواد، فلقد كانت أيامهم رياض الأزمنه، ولقد انجبر بهم خلق كثير فسقياً لهم ورعياً، فدعوت له وقلت: أنا أسألك أن تنشدني شيئاً من الشعر، فأنشدني:
لئن قدمت قبلي رجال فطالـمـا |
|
مشيت على رسلي فكنت المقدما |
ولكن هذا الدهر تأتي صروفـه |
|
فتبرم منقوضاً وتنقض مبرمـاً |
ثم نهضت، فلما قاربت الدهليز قال: يا فتى أرأيت مفلوجاً ينفعه الإهليلج؟ قلت: لا، قال: فإن الإهليلج الذي معك ينفعني فابعث لي منه، فقلت: نعم، وخرجت متعجباً من وقوعه على خبري مع كتماني له، وبعثت له مائة إهليلجة.
وقال أبو الحسن البرمكي: أنشدني الجاحظ:
وكان لنا أصدقاء مـضـوا |
|
تفانوا جميعاً فما خـلـدوا |
تساقوا جميعاً كؤوس المنون |
|
فمات الصديق ومات العدو |
وكانت وفاة الجاحظ في المحرم سنة خمس وخمسين ومائتين بالبصرة، وقد نيف على تسعين سنة، رحمه الله تعالى.
وبحر: بفتح الباء الموحدة وسكون الحاء المهملة وبعدها راء.
ومحبوب: بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وضم الباء الموحدة وسكون الواو وبعدها باء موحدة.
والجاحظ: بفتح الجيم وبعد الألف حاء مهملة مكسورة وبعدها ظاء معجمة.
والكناني: بكسر الكاف وفتح النون وبعد الألف نون ثانية.
والليثي: بفتح اللام وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها ثاء مثلثة، هذه النسبة إلى ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانه بن خزيمة.