عمرو بن عبيد

أبو عثمان عمرو بن عبيد بن باب، المتكلم الزاهد المشهور، مولى بني عقيل، ثم آل عرادة بن يربوع بن مالك. كان جده باب من سبي كابل من جبال السند، وكان أبوه يخلف أصحاب الشرط بالبصرة، فكان الناس إذا رأوا عمراً مع أبيه، قالوا: هذا خير الناس ابن شر الناس، فيقول أبوه: صدقتم، هذا إبراهيم وأنا آزر، وقيل لأبيه عبيد: إن ابنك يختلف إلى الحسن البصري، ولعله أن يكون، فقال: وأي خير يكون من ابني وقد أصبت أمه من غلول وأنا أبوه؟ وكان عمرو شيخ المعتزلة في وقته - وسيأتي في ترجمة واصل بن عطاء سبب اعتزاله، ولم سموا المعتزلة إن شاء الله تعالى - وكان آدم مربوعاً بين عينيه أثر السجود.

وسئل الحسن البصري عنه، فقال للسائل: لقد سألت عن رجل كأن الملائكة أدبته، وكأن الأنبياء ربته، إن قام بأمر قعد به، وإن قعد بأمر قام به، وإن أمر بشيء كان ألزم الناس له، وإن نهي عن شيء كان أترك الناس له، ما رأيت ظاهراً أشبه بباطن ولا باطناً أشبه بظاهر منه.

ولما كان عبد الله بن عمر بن عبد العزيز أميراً على العراق أرسل إلى عامله على البصرة - وهو شبيب بن شيبة - أن يوفد إليه وفداً، فأرسل إلى جماعة يأمرهم بذلك، وأرسل إلى عمرو بن عبيد فامتنع، فأعاد سؤاله فقال: إن أول ما يسألني عنه سيرتك، فما تراني قائلاً؟ قال: فكف عنه.

قلت: هذا عبد الله بن عمر هو الذي حفر نهر البصرة المعروف بنهر ابن عمر المشهور في مكانه، وهو عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي الحكمي، حبسه مروان بن محمد المنبوذ بالحمار، آخر ملوك بني أمية، مع إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، المعروف بالإمام، بحران، وقتلهما في سنة نيف وثلاثين ومائة.

ودخل عمرو يوماً على أبي جعفر المنصور في خلافته، وكان صاحبه وصديقه قبل الخلافة وله معه مجالس وأخبار، فقربه وأجلسه، ثم قال له: عظني، فوعظه بمواعظ، منها: إن هذا الأمر الذي أصبح في يدك لو بقي في يد غيرك ممن كان قبلك لم يصل إليك، فأحذرك ليلة تمخض بيوم لا ليلة بعده. فلما أراد النهوض قال: قد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم، قال: لا حاجة لي فيها، قال: والله تأخذها، قال: والله لا آخذها. وكان المهدي ولد المنصور حاضراً، فقال: يحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت؟ فالتفت عمرو إلى المنصور وقال: من هذا الفتى؟ قال: هذا المهدي ولدي وولي عهدي، فقال: أما لقد ألبسته لباساً ما هو من لباس الأبرار، وسميته باسم ما استحقه، ومهدت له أمراً أمتع ما يكون به أشغل ما يكون عنه. ثم التفت عمرو إلى المهدي وقال: نعم يا ابن أخي، إذا حلف أبوك أحنثه عمك، لأن أباك أقوى على الكفارات من عمك، فقال له المنصور: هل من حاجة؟ قال: لا تبعث إلي حتى آتيك، قال: إذاً لا تلقني، قال: هي حاجتي، ومضى، فأتبعه المنصور طرفه، وقال:

 

كلكم يمـشـي رويد

 

كلكم يطلـب صـيد

غير عمرو بن عبيد

 

 

 

ولما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهم، على أبي جعفر المنصور وقدم البصرة ثم خرج منها، وبلغ المنصور خبره، أقبل مسرعاً في سنة اثنتين وأربعين ومائة، وبها عمرو بن عبيد، فقال له أصحابه: نخرج للقائه، فأبى، فعاودوه وغلبوه على رأيه حتى خرج إليه، فقال له يا أبا عثمان، هل بالبصرة أحد نخافه على أمرنا؟ قال: لا، قال: أفأقتصر على قولك وأنصرف؟ قال: نعم، فانصرف ولم يدخلها.


ولعمرو المذكور رسائل وخطب، وكتاب التفسير عن الحسن البصري، وكتاب " الرد على القدرية "، وكلام كثير في العدل والتوحيد، وغير ذلك.


ولما حضرته الوفاة قال لصاحبه: نزل بي الموت ولم أتأهب له، ثم قال: اللهم إنك تعلم أنه لم يسنح لي أمران في أحدهما رضا لك وفي الآخر هوى لي إلا اخترت رضاك على هواي، فاغفر لي.


وكانت ولادته في سنة ثمانين للهجرة. وتوفي سنة أربع وأربعين ومائة، وقيل اثنتين، وقيل ثلاث، وقيل ثمان، وهو راجع من مكة بموضع يقال له مران؛ ورثاه المنصور بقوله:

صلى الإله عليك من متوسدٍ

 

قبراً مررت به على مران

قبراً تضمن مؤمناً متحنـفـاً

 

صدق الإله ودان بالعرفـان

لو أن هذا الدهر أبقى صالحاً

 

أبقى لنا عمراً أبا عثـمـان

ولم يسمع بخليفة رثى من دونه سواه، رضي الله عنه.

ومران: بفتح الميم وتشديد الراء وبعد الألف نون، موضع بين مكة والبصرة على ليلتين من مكة، وبه دفن أيضاً تميم بن مر الذي تنسب إليه بنو تميم القبيلة الكبيرة المشهورة.

واسم جده باب: بباءين موحدتين بينهما ألف، وإنما قيدته لأنه يتصحف بناب.