عمرو بن مسعدة

عمرو بن مسعدة بن سعيد بن صول الكاتب وكنيته أبو الفضل، أحد وزراء المأمون؛ ذكر الخطيب في " تاريخ بغداد " أنه ابن عم إبراهيم بن العباس الصولي الشاعر - وقد تقدم ذكره - وكان كاتباً بليغاً جزل العبارة وجيزها سديد المقاصد والمعاني. ولما كان الفضل بن سهل أخو الحسن بن سهل وزير المأمون لم يكن لأحد معه كلام، لاستيلائه على المأمون، فلما قتل سلم عليه الوزراء بعد ذلك وهم: أحمد بن أبي خالد الأحول وعمرو بن مسعدة المذكور وأبو عباد.

وكان المأمون قد أمره أن يكتب لشخص كتاباً إلى العمال بالوصية عليه والاعتناء بأمره، فكتب له " كتابي إليك كتاب واثقٍ بمن كتبت إليه، معنيٍ بمن كتبت له، ولن يضيع بين الثقة والعناية موصله، والسلام ".

وقيل إن هذا من كلام الحسن بن وهب، والأول أصح وأشهر. وقال عمرو بن مسعدة المذكور: كنت أوقع بين يدي جعفر بن يحيى البرمكي فرفع إليه غلمانه ورقة يستزيدونه في رواتبهم، فرمى بها إلي، وقال: أجب عنها، فكتبت " قليل دائم خير من كثير منقطع " فضرب بيده على ظهره، وقال: أي وزير في جلدك؟

وله كل معنى بديع. وتوفي في سنة سبع عشرة ومائتين بموضع يقال له أذنة، وذكر الجهشياري في كتاب " الوزراء " أنه توفي في شهر ربيع الأخر سنة خمسة عشرة ومائتين، والله أعلم. ولما مات رفعت إلى المأمون رقعة أنه خلف ثمانين ألف ألف درهم، فوقع في ظهرها " هذا قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا، فبارك الله لولده فيما خلف، وأحسن لهم النظر فيما ترك ".

وذكر المسعودي في كتاب " مروج الذهب " أنه لما مات عرض لماله ولم يعرض لمال وزير غيره، رحمه الله تعالى.

ومسعدة: بفتح الميم وسكون السين المهملة وفتح العين والدال المهملتين.

وأذنة: بفتح الهمزة والذال المعجمة والنون، وهي بليدة بساحل الشام عند طرسوس، بني حصنها سنة أربع وأربعين ومائة.

وبعد انتهائي إلى هذا الموضع ظفرت له برسالة بديعة كتبها إلى بعض الرؤساء وقد تزوجت أمه فساءه ذلك، فلما قرأها ذلك الرئيس تسلى بها وذهب عنه ما كان يجده، فآثرت الإتيان بها لحسنها، وهي " الحمد لله الذي كشف عنا ستر الحيرة، وهدانا لستر العورة، وجدع بما شرع من الحلال أنف الغيرة، ومنع من عضل الأمهات، كما منع من وأد البنات، استنزالاً للنفوس الأبية، عن الحمية حمية الجاهلية ثم عرض لجزيل الأجر من استسلم لواقع قضائه،وعوض جليل الذخر من صبر على نازل بلائه، وهناك الذي شرح للتقوى صدرك، ووسع في البلوى صبرك، وألهمك من التسليم لمشيئته، والرضا بقضيته، ما وفقك له من قضاء الواجب في أحد أبويك، ومن عظم حقه عليك،وجعل تعالى جده ما تجرعته من أنف، وكظمته من أسف، معدوداً فيما يعظم به أجرك ويجزل عليه ذخرك، وقرن بالحاضر من امتعاضك بفعلها، المنتظر من ارتماضك بدفنها، فتستوفى بها المصيبة، وتستكمل عنها المثوبة، فوصل الله لسيدي ما استشعره من الصبر على عرسها، ما يستكسبه من الصبر على نفسها، وعوضه من أسرة فرشها، أعواد نعشها، وجعل تعالى جده ما ينعم به عليه بعدها من نعمة، معرى من نقمة، وما يوليه من بعد قبضها من منحة، مبرأ من محنة، فأحكام الله تعالى جده وتقدست أسمائه جارية على غير مراد المخلوقين، لكنه تعالى يختار لعباده المؤمنين، ما هو خيرٌ لهم في العاجلة، وأبقى لهم في الآجلة، اختار الله لك في قبضها إليه، وقدومها عليه، ما هو أنفع لها، وأولى بها، وجعل القبر كفؤاً لها، والسلام ".

وقيل: إن هذا الرسالة لأبي الفضل ابن العميد - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى.

ولقد أذكرتني هذه الرسالة بيتين للصاحب بن عباد في شخص زوج أمه، وهما:

عذلـت لـتـزويجـه أمـه

 

فقال: فعلت حـلالاً يجـوز

فقلت: صدقت، حلالاً فعلت

 

ولكن سمحت بصدع العجوز

 

وكتب عمرو إلى بعض أصحابه في حق شخص يعز علي " أما بعد فموصل كتابي إليك سالم، والسلام "؛ أراد قول الشاعر:

يديرونني عن سالـم وأديرهـم

 

وجلدت بين العين والأنف سالم

 

أي: يحل مني هذا المحل.


وأنشد محمد بن داود بن الجراح لمحمد البيدق النصيبي في عمرو بن مسعدة وقد اشتكى:

قالوا أبو الفضل معتل فقلت لهم:

 

نفسي الفداء له من كل محذور

يا ليت علتـه بـي ثـم أن لـه

 

أجر العليل وأني غير مأجـور

 

وكان بين عمرو المذكور وبين إبراهيم بن العباس الصولي -المقدم ذكره- مودة، فحصل لإبراهيم ضائقة بسبب البطالة في بعض الأوقات، فبعث لهم عمرو مالاً، فكتب إليه إبراهيم:

سأشكر عمراً ما تراخت منـيتـي

 

أيادي لم تمنن وإن هـي جـلـت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

 

ولا مظهر الشكوى إذ النعل ذلـت

رأى خلتي من حيث يخفى مكانهـا

 

فكانت قذى عينيه حتى تـجـلـت

وقال أحمد بن يوسف الكاتب - المقدم ذكره -: دخلت على المأمون، وهو يمسك كتاباً بيده، وقد أطال النظر فيه زماناً وأنا ملتفت إليه، فقال: يا أحمد، أراك مفكراً فيما تراه مني، قلت: نعم، وقى الله أمير المؤمنين من المكاره وأعاذه من المخاوف، قال: فإنه لا مكروه فيه: ولكنني قرأت كلاماً وجدته نظير ما سمعته من الرشيد يقوله في البلاغة، كان يقول: البلاغة التباعد عن الإطالة، والتقرب من معنى البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ على المعنى، وما كنت أتوهم أن أحداً يقدر على المبالغة في هذا المعنى، حتى قرأت هذا الكتاب، ورمى به إلي، وقال: هذا كتاب من عمرو بن مسعدة إليه، قال: فقرأته فإذا فيه " كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من قواده وسائر أجناده في الانقياد والطاعة على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم، وانقياد كفاة تراخت أعطياتهم، واختلت لذلك أحوالهم، والتائت معه أمورهم " فلما قرأته قال: إن استحساني إياه بعثني على أن أمرت للجند قبله بعطائهم لسبعة أشهر، وأنا على مجازاة الكاتب بما يستحقه من حل محله في صناعته.