الملك المعظم ابن العادل

الملك المعظم شرف الدين عيسى، ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب صاحب دمشق؛ كان عالي الهمة حازماً شجاعاً مهيباً فاضلاً جامعاً شمل أرباب الفضائل محباً لهم، وكان حنفي المذهب متعصباً لمذهبه وله فيه مشاركة حسنة، ولم يكن في بني أيوب حنفي سواه، وتبعه أولاده، وكان قد حج إلى بيت الله الحرام في سنة إحدى عشرة وستمائة، سار من الكرك على الهجن في حادي عشر ذي القعدة في جماعة من خواصه، وسلك طريق العلا وتبوك، وفي هذه السنة أخذ المعظم صرخد من ابن قراجا وأعطاها مملوكه عز الدين أيبك المعروف بصاحب صرخد، ولم يزل بها إلى أن أخذها منه الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل في سنة أربع وأربعين وستمائة، وحمله إلى القاهرة واعتقله بدار الطواشي صواب.

وكان المعظم يحب الأدب كثيراً ومدحه جماعة من الشعراء المجيدين فأحسنوا في مدحه، وكانت له رغبة في فن الأدب، وسمعت أشعاراً منسوبة إليه ولم أستثبتها فلم أثبت شيئاً منها. وقيل إنه كان قد شرط لكل من يحفظ " المفصل " للزمخشري مائة دينار وخلعة، فحفظه لهذا السبب جماعة، ورأيت بعضهم بدمشق، والناس يقولون: إن سبب حفظهم له كان هذا، وقيل إنه لما توفي كان قد انتهى بعضهم إلى أواخره وبعضهم في أثنائه وهم على قدر أوقات شروعهم فيه، ولم أسمع بمثل هذه المنقبة لغيره.

وكانت مملكته متسعة من حدود بلد حمص إلى العريش يدخل في ذلك بلاد الساحل الإسلاميه منها وبلاد الغور وفلسطين والقدس والكرك والشوبك وصرخد وغير ذلك.

وكانت ولادته في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وذكر أبو المظفر يوسف سبط ابن الجوزي في تاريخه " مرآة الزمان " أن المعظم ولد في سنة ست وسبعين وخمسمائة بالقاهرة، وولد أخوه الأشرف موسى قبله بليلة واحدة. وتوفي المعظم يوم الجمعة مستهل ذي الحجة سنة أربع وعشرين وستمائة، والله أعلم بالصواب.

وقال غيره: بل توفي يوم الجمعة ثامن ساعة من نهار سلخ ذي القعدة سنة أربع وعشرين وستمائة بدمشق، ودفن بقلعتها ثم نقل إلى جبل الصالحية، ودفن في مدرسة هناك بها قبور جماعة من إخوته وأهل بيته تعرف بالمعظمية، وكان نقله ليلة الثلاثاء مستهل المحرم سنة سبع وعشرين.

وكان كثيراً ما ينشد:

ومورد الوجنات أغيد خـالـه     بالحسن من فرط الملاحة عمه

كحل الجفون وكان في ألحاظه

 

كحل فقلت سقى الحسام وسمه

 

وهذا ينظر إلى قول عبد الجبار بن حمديس الصقلي - المقدم ذكره:

زادت على كحل الجفون تكحلا

 

ويسمٌ نصل السيف وهو قتول

 

رحمه الله تعالى، فلقد كان من النجباء الأذكياء؛ أخبرني جماعة عن شرف الدين بن عنين بأمور كانت تجري بينهما تدل على حسن الإدراك وإصابة المقصد، منها: أنه كان ابن عنين قد مرض فكتب إليه:

انظر إلي بعين مولىً لم يزل

 

يولي الندى وتلاف قبل تلافي

أنا كالذي أحتاج ما تحتـاجـه

 

فاغنم ثوابي والثناء الوافـي

فجاء بنفسه إليه يعوده ومعه صرة فيها ثلثمائة دينار، فقال: هذه الصلة وأنا العائد، وهذه لو وقعت لأكابر النحاة ومن هو في ممارسته طول عمره لاستعظم منه، لا سيما مثل هذا الملك، وأشياء كثيرة غير هذه يطول شرحها وكان المقصود ذكر أنموذج منها ليستدل بها على الباقي.

وتولى موضعه: ولده الملك الناصر صلاح الدين داود، وتوفي في السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة ست وخمسين وستمائة، في قرية يقال لها البويضاء على باب دمشق، ودفن عند والده. وكانت ولادته يوم السبت، سابع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وستمائة بدمشق.

وتوفي عز الدين أيبك صاحب صرخد المذكور في أوائل جمادى الأولى من سنة ست وأربعين وستمائة في موضع اعتقاله بالقاهرة. ودفن خارج باب النصر في تربة شمس الدولة، وحضرت الصلاة عليه ودفنه. ثم نقل إلى تربته في مدرسته التي أنشأها ظاهر دمشق على الشرف الأعلى مطلة على الميدان الأخضر الكبير.