الملك الظاهر صاحب حلب

أبو الفتح وأبو منصور غازي ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، الملقب الملك الظاهر غياث الدين صاحب حلب، كان ملكا مهيبا حازما متيقظا كثير الاطلاع على أحوال رعيته وأخبار الملوك، عالي الهمة حسن التدبير والسياسة باسط العدل محبا للعلماء مجيزا للشعراء، أعطاه والده مملكة حلب في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة بعد أن كانت لعمه الملك العادل، فنزل عنها وتعوض غيرها، كما قد شهر.
ويحكى عن سرعة إدراكه أشياء حسنة: منها أنه جلس يوما لعرض العسكر، وديوان الجيش بين يديه، فكان كلما حضر واحد من الأجناد سأله الديوان عن اسمه لينزلوه، حتى حضر واحد فسألوه فقبل الأرض، فلم يفطن أحد من أرباب الديوان لما أراد، فاودوا سؤاله، فقال الملك الظاهر: اسمه غازي، وكان كذلك، وتأدب الجندي أن يذكر اسمه لما كان موافقا لاسم السلطان، وعرف هو مقصوده، وله من هذا الجنس شيء كثير لا حاجة إلى النطويل فيه.

وكانت ولادته بالقاهرة في منتصف رمضان سنة ثمان وستين وخمسمائة، وهي السنة الثانية من استقلال أبيه بمملكة الديار المصرية. وتوفي بقلعة حلب، ليلة الثلاثاء العشرين من جمادى الآخرة، سنة ثلاث عشرة وستمائة، ودفن بالقلعة، ثم بنى الطواشي شهاب الدين طغريل الخادم اتابك ولده الملك العزيز مدرسة تحت القلعة وعمر فيها تربة ونقله إليها، رحمه الله تعالى. والعجب أنه دخل حلب مالكا لها في الشهر بعينه واليوم من سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.

ورثاه شاعره الشرف راجح بن إسماعيل بن أبي القاسم الأسدي الحلي، وكنيته أبو الوفاء، بهذه القصيدة، ومدح ولديه السلطان الملك العزيز محمدا وأخاه الملك الصالح صاحب عين تاب، وما أقصر فيها، وهي:

سل الخطب إن أصغى إلى من يخاطبه

 

بمن علقت أنـيابـه ومـخـالـبـه

نشدتك عاتـبـع عـلـى نـائبـاتـه

 

وإن كان نائي السمع عمن يعاتـبـه

لي الله كم أرمي بطـرفـي ضـلالة

 

إلى أفق مجد قد تهاوت كـواكـبـه

فما لي أرى الشهباء قد حال صبحهـا

 

علي دجى لا تستـنـير غـياهـبـه

أحقا حمى الغازي الغياث بن يوسـف

 

أبيح وعادت خـائبـات مـواكـبـه

نعم كورت شمس المدائح وانـطـوت

 

سماء العلا والنجح ضاقت مذاهـبـه

فمن مخبري عن ذلك الطود هل وهت

 

قواعده أم لان للخـطـب جـانـبـه

أجل ضعضعت بعد الثبات وزعزعت

 

بريح المنايا العاصفات مـنـاكـبـه

وغيض ذاك البحر من بعد ما طمـت

 

وطمت لغيبـان الـبـلاد غـواربـه

فشلت يمين الخـطـب أي مـهـنـد

 

برغم العلا سلت وفلت مـضـاربـه

لئن حبس الغيث الغـياثـي قـطـره

 

فقد سحبت في كل قطر سـحـائبـه

فأنى يلذ العيش بـعـد ابـن يوسـف

 

أبو أمل أكدت علـيه مـطـالـبـه

فلا أدركت نيل المنـى طـالـبـاتـه

 

ولا بركت في أرض يمن ركـائبـه

ولا انتجعت إلا مـعـبـس حـقـبة

 

من الجدب لا تثني عليه حـقـائبـه

مضى من أقام الناس في ظل عـدلـه

 

وآمن من خطب تـدب عـقـاربـه

فكم من حمى صعب أباحت سـيوفـه

 

ومن مستباح قد حمـتـه كـتـائبـه

أرى اليوم دست الملك أصبح خـالـيا

 

أما فيكم من مخبـر أين صـاحـبـه

فمن سائلي عن سائل الدمع لم جـرى

 

لعل فؤادي بـالـوجـيب يجـاوبـه

فكم من ندوب في قلـوب نـضـيجة

 

بنار كروب أجـجـتـهـا نـوادبـه

أيسلم لم تحـطـم صـدور رمـاحـه

 

بذب ولم تثلم بضـرب قـواضـبـه

ولا اصطدمت عند الحتوف كمـاتـه

 

ولا ازدحمت بين الصفوف جنـائبـه

ولا سـيم أخـذ الـثـار يوم كـريهة

 

تشق مثار النقع فيهـا سـلاهـبـه

فيا ملبسي ثوبا من الحزن مـسـبـلا

 

أيحسن بي أن التسـلـي سـالـبـه

خدمتك، روض المجد تضفو ظلالـه

 

علي، وحوض الجود تصفو مشاربـه

وقد كنت تدنيني وترفع مـجـلـسـي

 

لمفروض مدح ما تعـداك واجـبـه

فما بال إذني قد تـمـادى ولـم يكـن

 

إذا جئت يثنيني عن الباب حـاجـبـه

أرى الشمس أخفت يوم فقدك نورهـا

 

فلا كان يوم كاسف الوجه شاحـبـه

فكيف نبا سيف اعتـزامـك أو كـبـا

 

جواد من الحزم الذي أنـت راكـبـه

فمن لليتـامـى يا غـياث يغـيثـهـم

 

إذا الغيث لم ينقع صدى العام ساكبـه

ومن لملوك كنـت ظـلا عـلـيهـم

 

ظليلا إذا ما الدهر نـابـت نـوائبـه

أيا تاركي ألقى العـدو مـسـالـمـا

 

متى ساءني بالجد قـمـت ألاعـبـه

سقت قبرك الغر الـغـوادي وجـاده

 

من الغيث سارية الملـث وسـاربـه

فإن يك نور من شهابـك قـد خـبـا

 

فيا طالما جلى دجى الليل ثـاقـبـه

فقد لاح بالملك العـزيز مـحـمـد

 

صباح هدى كنا زمانا نـراقـبـه

فتى لم يفـتـه مـن أبـيه وجـده

 

إباء وجد غالـبـا مـن يغـالـبـه

ومن كان في المسعى أبوه دلـيلـه

 

تدانى له الشأو الذي هـو طـالـه

وبالصالح استعلـى صـلاح رعـية

 

لها منه رعي ليس يقلـع راتـبـه

فحسب الورى من أحمد ومحـمـد

 

مليكان من عاداهما ذل جـانـبـه

فما أحرزا علياء غازي بن يوسـف

 

وما ضيعا المجد الذي هو كاسـبـه

فأفق الورى لولاهما كان أظلـمـت

 

مشارقه من بـعـده ومـغـاربـه

سيحمي على رغم الليالي حماهمـا

 

عوالي قنا تردى الأسود ثعـالـبـه

فكم من ملم جل موقـع خـطـبـه

 

فساءت مباديه وسرت عـواقـبـه

فيا قمري سعد أطلا على الـدجـى

 

فولى وما ألوى على الأرض هاربه

أيمكث في الشهباء عبـد أبـيكـمـا

 

ومادحه أم تسـتـقـل نـجـائبـه

فإن شئتما بعد الغياث أغـثـتـمـا

 

مصاب سهام فوقتهـا مـصـائبـه

كأن لم أقف أجلو التهانـي أمـامـه

 

وتضحك في وجه الأماني مواهبـه

فهنيتما ما نلـتـمـا وبـقـيتـمـا

 

لإعلاء ملك سامـيات مـراتـبـه

وهذه القصيدة مع جودتها فيها مواضع مأخوذة من مرثية الفقيه عمارة اليمني للصالح بن رزيك، وبعضها مذكور في ترجمة الصالح، وكأنه قد نسج على منوالها، فإنها على وزنها وإن كان حرف الروي مختلفا، فقد استعمل هاء الوصل كما استعمله عمارة، والظاهر أنه كان قد وقف عليها فقصد مضاهاتها.

وقام بالأمر ومملكة حلب من بعده: ولده الملك العزيز غياث الدين أبو المظفر محمد ابن الملك الظاهر، ومولده يوم الخميس خامس ذي الحجة سنة عشر وستمائة بقلعة حلب، وتوفي يوم الأربعاء رابع شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وستمائة، وكنت بحلب في ذلك الوقت، وذفن بالقلعة.

وترتب مكانه ولده الملك الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف ابن الملك العزيز، واتسعت مملكته، فإنه ملك عدة بلاد من الجزيرة الفراتية لما كسر الخوارزمية، وكان مقدم جيشه الملك المنصور صاحب حمص، وذلك في أواخر سنة إحدى وأربعين أو أوائل سنة اثنتين وأربعين، ثم ملك دمشق والبلاد الشامية يوم الأحد سابع عشر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وستمائة، ومولده بقلعة حلب في تاسع عشر رمضان سنة سبع وعشرين وستمائة، وقصده التتر وملكوا الشام، فخرج من دمشق في صفر سنة ثمان وخمسين، وقتل في الثالث والعشرين من شوال سنة ثمان وخمسين بالقرب من المراغة من أعمال أذربيجان على ما نقل الناقل، والله أعلم، وقصته مشهورة.

زتزفي عمه الملك الصالح صلاح الدين أحمد ابن الملك الظاهر صاحب عين تاب في شعبان سنة إحدى وخمسين وستمائة، وكانت ولادته في صفر سنة ستمائة بحلب، ومات بعين تاب، رحمهم الله تعالى أجمعين. وإنما قدموا العزيز وهو الأصغر على أخيه الصالح لأن أمه صفية خاتون بنت الملك العادل بن أيوب، فقدموه في الملك لأجل جده وأخواله اولاد العادل، وأما الصالح فإن أمه جارية.

وتوفي الشرف الحلي المذكور في ليلة السابع والعشرين من شعبان سنة سبع وعشرين وستمائة بدمشق، رحمه الله تعالى، ودفن بظاهرها في جوار مسجد النارنج شرقي مصلى العيد، ومولده في منتصف شهر ربيع الآخر سنة سبعين وخمسمائة بالحلة، وهو من مشاهير شعراء عصره.