فاتك المجنون

أبو شجاع فاتك الكبير المعروف بالمجنون، كان روميا، أخذ صغيرا هو وأخ له وأخت لهما من بلد الروم من موضع قرب حصن يعرف بذي الكلاع، فتعلم الخط بفلسطين، وهو ممن أخذه الإخشيد من سيده بالرملة كرها بلا ثمن، فأعتقه صاحبه، وكان معهم حرا في عدة المماليك، وكان كريم النفس بعيد الهمة شجاعا كثير الإقدام، ولذلك قيل له المجنون، وكان رفيق الأستاذ كافور في خدمة الإخشيد، فلما مات مخدومهما وتقرر كافور في تربية ابن الإخشيد - كما سيأتي في ترجمة كافور إن شاء الله تعالى - أنف فاتك من الإقامة بمصر كيلا يكون كافور أعلى رتبة منه، ويحتاج أن يركب في خدمته، وكانت الفيوم وأعمالها إقطاعا له، فانتقل إليها واتخذها سكنا له، وهي بلاد وبيئة كثيرة الوخم، فلم يصح له بها جسم، وكان كافور يخافه ويكرمه فزعا منه وفي نفسه منه ما فيها، فاستحكمت العلة في جسم فاتك وأحوجته إلى دخول مصر للمعالجة، فدخلها وبها أبو الطيب المتنبي ضيفا للأستاذ كافور، وكان يسمع بكرم فاتك وكثرة سخائه، غير أنه لا يقدر على قصد خدمته خوفا من كافور، وفاتك يسأل عنه ويراسله بالسلام، ثم التقيا في الصحراء مصادفة من غير ميعاد، وجرى بينهما مفاوضات، فلما رجع فاتك إلى داره حمل لأبي الطيب في ساعته هدية قيمتها ألف دينار، ثم أتبعها بهدايا بعدها، فاستأذن المتنبي الأستاذ كافورا في مدحه فأذن له، فمدحه في التاسع من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وثلثمائة بقصيدته المشهورة التي أولها، وهي من غر القصائد:

لاخيل عندك تهديهـا ولا مـال

 

فليسعد النطق إن لم يسعد الحال

 

وما أحسن قوله فيها:

كفاتك ودخول الكاف منـقـصة

 

كالشمس قلت وما للشمس أمثال

 

ثم توفي فاتك المذكور ليلة الأحد عشاء، لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمسين وثلثمائة بمصر، فرثاه المتنبي، وكان قد خرج من مصر، بقصيدته التي أولها:

الحزن يقلق والتجمل يردع

 

والدمع بينهما عصي طيع

 

وما أرق قوله فيها:

إني لأجبن من فراق أحبتـي

 

وتحس نفسي بالحمام فأشجع

ويزيدني غضب الأعادي قسوة

 

ويلم بي عتب الصديق فأجزع

تصفو الحياة لجاهل أو غافـل

 

عما مضى منها وما يتوقـع

ولمن يغالط في الحقائق نفسه

 

ويسومها طلب المحال فتطمع

أين الذي الهرمان من بنيانـه

 

ماقومه ما يومه ما المصرع

تتخلف الآثار عن أصحابـهـا

 

حينا فيدركها الفناء فتتـبـع

 

وهي من المراثي الفائقة. ثم عمل بعد خروجه من بغداد يذكر مسيرة من مصر ويرثي فاتكا المذكور، وأنشأها يوم الثلاثاء لتسع خلون من شعبان سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة، وأولها:

حتام نحن نساري النجم في الظلم

 

وماسراه على خـف ولا قـدم

 

ومنها في ذكر فاتك:

لا فاتك آخر في مصر نقصـده

 

ولا له خلف في الناس كلـهـم

من لا تشابهه الأحياء فـي شـيم

 

أمسى تشابهه الأموات في الرمم

عدمته وكأني سرت أطـلـبـه

 

فما تزيدني الدنيا على الـعـدم

وله فيه شيء آخر، رحمه الله تعالى.