ذو الرمة

وهو أحد عشاق العرب المشهورين بذلك، وصاحبته مية ابنة مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم المنقري، وقيس بن عاصم هو الذي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم فأكرمه، وقال له: أنت سيد أهل الوبر، وقال أبو عبيد البكري: هي مية بنت عاصم بن طلبة بن قيس بن عاصم، والله أعلم بالصواب.

وكان ذو الرمة كثير التشبيب بها في شعره، وإياهما عنى أبوتمام الطائي بقوله في قصيدته البائية:

ما ربع مية معمورا يطـيف بـه

 

غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب

 

وقال ابن قتيبة في كتاب - طبقات الشعراء -: قال أبو ضرار الغنوي: رأيت مية وإذا معها بنون لها، فقلت: صفها لي، قال: مسنونة الوجه طويلة الخد شماء الأنف، عليها وسم جمال، قلت: أكانت تنشدك شيئا مما قال فيها ذو الرمة؟ قال: نعم. ومكثت مية زمانا تسمع شعر ذي الرمة ولاتراه، فجعلت لله تعالى عليها أن تنحر بدنة يوم تراه، فلما رأته رأت رجلا دميما أسود، وكانت من أهل الجمال، فقالت: واسوأتاه، وابؤساه! فقال ذو الرمة:

على وجه مي مسحة من ملاحة

 

وتحت الثياب العار لو كان باديا

ألم تر أن الماء يخبث طعـمـه

 

وإن كان لون الماء أبيض صافيا

فواضيعة الشعر الذي لج فانقضى

 

بمي ولم أملك ضـلال فـؤاديا

 

ويروى أن ذا الرمة لم ير مية قط إلا في ببرقع، فأحب أن ينظر إلى وجهها فقال:

جزى الله البراقع من ثياب

 

عن الفتيان شرا ما بقينـا

يوارين الملاح فلا نراها

 

ويخفين القباح فيزدهينـا

 

فنزعت البرقع عن وجهها، وكانت باهرة الحسن، فلما رآها مسفرة قال:

على وجه مية مسحة من ملاحة

 

البيت المقدم، فنزعت ثيابها وقامت عريانة، فقال:

ألو تر أن الماء يخبث طعمه

 

البيت المذكور، فقالت له: أتحب أن تذوق طعمه؟ قال: إي والله، فقالت له: تذوق الموت قبل أن تذوقه، والله أعلم.
ومن شعره السائر فيها:

إذا هبت الأرواح من نحو جانب

 

به أهل مي هاج قلبي هبوبهـا

هوى تذرف العينان منه وإنمـا

 

هوى كل نفس حيث كان حبيبها

 

ومان ذو الرمة يشبب بخرقاء أيضا، وهي من بني البكاء بن عامر بن صعصعة وسبب تشبيبه بها أنه مر في سفر ببعض البوادي، فإذا خرقاء خاجة من خباء، فنظر إليها فوقعت في قلبه، فخرق إداوته ودنا منها يستطعم كلامها، فقال: إني رجل على ظهر سفر، وقد تخرقت إداوتي، فأصلحيها لي، فقالت: والله ما احسن العمل وإني لخرقاء، والخرقاء التي لا تعمل شغلا لكرامتها على أهلها، فشبب بها ذو الرمة وسماها خرقاء، وإياها عنى بقوله وهو في غاية المبالغة:

وما شنتا خرقاء واهيتا الكلـى

 

سقى بها ساق ولم يتـبـلـلا

بأضيع من عينيك للدمع كلمـا

 

تذكرت ربعا أو توهمت منزلا

 

وقال المفضل الضبي: كنت أنزل على بعض الأعراب إذا حججت، فقال لي يوما: هل لك أن أريك خرقاء صاحبة ذي الرمة؟ فقلت له: إنن فعلت فقد بررتني، فتوجهنا جميعا نريدها، فعدل بي عن الطريق بقدر ميل، ثم أتينا أبيات شعر، فاستفتح بيتا ففتح له، وخرجت علينا امرأة طويلة حسانة بها قوة، والحسانة أشد حسنا من الحسناء، فسلمت وجلست وتحدثنا ساعة، ثم قالت لي: هل حججت قط: قلت: غير مرة، قالت: فما منعك من زيارتي، أما علمت أني منسك من مناسك الحج؟ قلت: وكيف ذلك؟ قالت: أما سمعت قول ذي الرمة:

تمام الحج أن تقف المطايا

 

على خرقاء واضعة اللثام

 

وكان ذو الرمة كثير المديح لبلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وفيه يقول مخاطبا ناقته صيدح، وهذا الاسم علم عليها:

إذا ابن أبي موسى بلالا بلغته

 

فقام بفأس بين وصليك جازر

 

وقد أخذ هذا المعنى من قول الشماخ في عرابة الأوسي رضي الله عنه، وهو أيضا يخاطب ناقته من جملة أبيات:

إذا بلغتني وحملت رحلي

 

عرابة فاشرقي بدم الوتين

 

وجاء بعدهما أبو نواس فكشف عن هذا المعنى وأوضحه بقوله في الأمين محمد بن هارون الرشيد:

وإذا المطي بنا بلغن محـمـدا

 

فظهورهن على الرجال حرام

 

حتى قال بعض العلماء، ولا أستحضر الآن من هو القائل، لما وقف على بين أبي نواس: هذا المعنى والله الذي كانت العرب تحوم حوله فتخطئه ولا تصيبه فقال الشماخ كذا، وقال ذو الرمة كذا، وأنشد بيتيهما المذكورين، وما أبانه إلا أبو نواس بهذا البيت، وهو في نهاية الحسن. والأصل في هذا المعنى، قول الأنصارية المأسورة بمكة، وكانت قد نجت على ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصلت إليه قالت: يا رسول الله، إني نذرت إن نجوت عليها أن أنحرها، فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم لبئس ما جزيتها. وتفسير هذا المعنى: إني لست أحتاج أن أرحل إلى غيرك، فقد كفيتني وأغنيتني، إلا أن الشماخ وعد ناقته بالذبح، وذا الرمة دعا عليها أيضا بالذبح، وأبو نواس حرم الركوب على ظهرها وأراحها من الكد في الأسفار، فهو أتم في المقصود، لكونه أحسن إليها في قبالة إحسانها إليه، حيث أوصلته إلى الممدوح.


وكان لذي الرمة إخوة: هشام وأوفى ومسعود، فمات أوفى ثم مات ذو الرمة بعدة، فقال مسعود يرثيهما - هكذا قال ابن قتيبة، وقال في الحماسة في المراثي خلاف هذا، والله أعلم بالصواب - والأبيات التي قالها مسعود:

تعزيت عن أوفى بغيلان بعـده

 

عزاء وجفن العين ملآن مترع

ولم ينسني أوفى المصيبات بعده

 

ولكن نكء القرح بالقرح أوجع

 

وهي من جملة أبيات، وهذا مسعود هو الذي أشار إليه أبو تمام بقوله:

إن كان مسعود سقى أطلالهـم

 

سبل الشؤون فلست من مسعود

 

قال أبو القاسم الآمدي صاحب كتاب الموازنة بين الطائيين في الكلام على هذا البيت: هذا مسعود أخو ذي الرمة، وكان يلوم أخاه ذا الرمة على بكائه الطلول، حتى قال فيه ذو الرمة:

عشية مسعود يقول وقـد جـرى

 

على لحيي من واكف الدمع قاطر

أفي الدار تبكي إذ بكيت صـبـابة

 

وأنت امرؤ قد حلمتك العـشـائر

 

فكأن أبا تمام يقول: إن كان مسعود قد رجع عن ذلك المذهب وصار يبكي على الطلول فلست منه، وهذا أبلغ في التبري منه مما إذا كان هذا شأنه، فصار كقول القائل: إن كان حاتم قد بخل أو السموأل قد غدر فلست منهما، وهذا أبلغ من قوله: إن كان البخيل قد بخل والغادر قد غدر فلست منهما، وهذا حاصل ما قاله الآمدي، وإن كان بغير هذه العبارة.


وأخبار ذي الرمة كثيرة، والاختصار أولى. وكانت وفاته سنة سبع عشرة ومائة، رحمه الله تعالى، ولما حضرته الوفاة قال: أنا ابن نصف الهرم، أنا ابن أربعين سنة، وأنشد:

يا قابض الروح عن نفسي إذا احتضرت

 

وغافر الذنب زحزحني عـن الـنـار

 

وإنما قيل له ذو الرمة بقوله في الوتد:

أشعث باقي رمة التقليد

 

والرمة - بضم الراء - الحبل البالي، وبكسرها العظم البالي.


وقال أبو عمرو بن العلاء: ختم الشعر بذي الرمة والرجز برؤبة بن العجاج، فقيل له: إن رؤبة حي، فقال: نعم، ولكن ذهب شعره كما ذهب مطعمه وملبسه ومنكحه، فقيل له: فهؤلاء الآخرون؟ فقال: مرقعون مهدمون، إنما هم كل على غيرهم.
وقال أبو عمرو، قال جرير: لو خرس ذو الرمة بعد قوله قصيده التي أولها:

ما بال عينيك منها الماء ينسكب

كان أشعر الناس، وقال أبو عمرو: سمعت ذا الرمة يقول: إذا نزل بنا نازل قلنا له: الحليب أحب إليك أم المخيض؟ فإن قال المخيض، قلنا: عبد من أنت: وإن قال الحليب، قلنا: ابن من أنت؟ وقال أبو عمرو: شعر ذي الرمة نقط عروس يضمحل عن قليل، وأبعار ظباء لها شم في أول رائحة، ثم يعود إلى البعر. وبالجملة فقد كان من مشاهير الشعراء في عصره، وذوي التقدم في النظم في دهره، رحمه الله تعالى.

وذكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب - اعتلال القلوب - عن محمد ابن سلمة الضبي قال: حججت، فلما صدرت من الحج تيممت منهلا من المناهل، وإذا بيت بناحية من الطريق، فأنخت بفنائه، فقلت: أنزل؟ فقالت ربة البيت: نعم، فقلت: وادخل؟ قالت: أجل، فدخلت فإذا بجارية أحسن من الشمس، فجلست أحدثها وكأن الدر ينثر من فيها، فبينا أنا كذلك إذ خرجت عجوز مؤتزرة بعباءة مشتملة باخرى، فقالت: يا عبد الله، ما جلوسك هاهنا عند هذا الغزال النجدي الذي لا تأمن حباله، ولا ترجو نواله؟ فقالت لها الجارية: أي جدة دعيه يتعلل كما قال ذو الرمة:

فإن لا يكن إلا تعلل ساعة

 

قليلا فإني نافع لي قليلها

قال: فأقمت يومي وانصرفت، وفي قلبي كجمر الغضا من حبها.

أبو الحارث غيلان بن عقبة بن بهيش بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيعة بن ساعدة بن كعب بن عوف بن ربيعة بن ملكان بن عدي بن عبد مناة ابن أد بن طانجة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، الشاعر المشهور المعروف بذي الرمة، أحد فحولة الشعراء، ويقال إنه كان ينشد شعره في سوق الإبل، فجاء الفرزدق فوقف عليه، فقال له ذو الرمة: كيف ترى ما تسمع يا أبا فراس؟ فقال: ما أحسن ما تقول! قال: فما لي لا أذكر مع الفحول؟ قال: قصر بك عن غايتهم بكاؤك في الدمن، وصفتك للأبعار والعطن.