أبو عبيد القاسم بن سلام

أبو عبيد القاسم بن سلام، بتشديد اللام، كان أبوه عبدا روميا لرجل من أهل هراة، واشتغل أبو عبيد بالحديث والأدب والفقه، وكان ذا دين وسيرة جميلة ومذهب حسن وفضل بارع.

وقال القاضي أحمد بن كامل: كان أبو عبيد فاضلا في دينه وعلمه، ربانيا متفننا في أصناف علوم الإسلام من القراءات والفقه والعربية والأخبار، حسن الرواية صحيح النقل، ولا أعلم احدا من الناس طعن عليه في شيء من أمر دينه.

قال إبراهيم الحربي: كان أبو عبيد كأنه جبل نفخ فيه الروح يحسن كل شيء. وولي القضاء بمدينة طرسوس ثماني عشرة سنة، وروى عن أبي زيد الأنصاري والأصمعي وأبي عبيدة وابن الأعرابي والكسائي والفراء وجماعة كثيرة غيرهم، وروى الناس من كتبه المصنفة بضعة وعشرين كتابا في القرآن الكريم والحديث وغريبه والفقه وله الغريب المصنف والأمثال ومعاني الشعر وغير ذلك من الكتب النافعة.

ويقال إنه أول من صنف في غريب الحدي. وانقطع إلى عبد الله بن طاهر مدة، ولما وضع كتاب الغريب عرضه على عبد الله بن طاهر، فاستحسنه وقال: إن عقلا بعث صاحبه على عمل هذا الكتاب حقيق ألا يحوج إلى طلب المعاش، وأجري عليه عشرة آلاف درهم في كل شهر. وقال محمد بن وهب المسعري: سمعت أبا عبيد يقول: كنت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة، وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال فأصعها في موضعها من الكتاب، فأبيت ساهرا فرحا مني بتلك الفائدة، وأحدكم يجيئني فيقيم أربعة خمسة أشهر فيقول: قد أقمت كثيرا.

وقال الهلال بن العلاء الرقي: من الله تعالى على هذه الأمة بأربعة في زمانهم: بالشافعي تفقه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأحمد بن حنبل ثبت في محنة ولولا ذاك لكفر الناس، وبيحيى بن معين نفى الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأبي عبيد القاسم بن سلام فسر غريب الحديث ولولا ذاك لاقتحم الناس الخطأ.

وقال أبي بكر ابن الأنباري: كان أبو عبيد يقسم الليل أثلاثا فيصلي ثلثه وينام ثلثه ويضع الكتب ثلثه. وقال إسحاق بن راهويه: أبو عبيد أوسعنا علما وأكثرنا أدبا وأجمعنا جمعا، إنا نحتاج إلى أبي عبيد وأبو عبيد لا يحتاج إلينا. وقال ثعلب: لو كان أبو عبيد في بني إسرائيل لكان عجبا.

وكان يخضب بالحناء، أحمر الرأس واللحية، وكان له وقار وهيبة. وقدم بغداد فسمع الناس منه كتبه. ثم حج وتوفي بمكة، وقيل بالمدينة بعد الفراغ من الحج، سنة اثنتين او ثلاث وعشرين ومائتين، وقال البخاري: سنة أربع وعشرين، وزاد غيره: في المحرم، وقال الخطيب في تاريخ بغداد: بلغني أنه عاش سبعا وستين سنة، وذكر الحافظ ابن الجوزي أن مولده سنة خمسين ومائة. وقال أبو بكر الزبيدي في كتاب التقريظ: إن مولده سنة أربع وخمسين ومائة. وذكر أن أبا عبيد لما قضى حجه وعزم على الانصراف واكترى إلى العراق، رأى في الليلة التي عزم على الخروج في صبيحتها النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وهو جالس وعلى رأسه قوم يحجبونه وناس يدخلون فيسلمون عليه ويصافحونه، قال: فكلما دنوت لأدخل منعت، فقلت لهم: لم لا تخلون بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لا والله لا تدخل إليه ولا تسلم عليه وأنت خارج غدا إلى العراق، فقت لهم: إني لا أخرج إذا، فأخذوا عهدي، ثم خلوا بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت وسلمت عليه وصافحني، فأصبحت ففسخت الكراء وسكنت بمكة، ولم يزل بها إلى الوفاة، ودفن في دور جعفر، وقيل إنه رأى المنام بالمدينة ومات بها بعد رحيل الناس عنها بثلاثة أيام، رحمه الله تعالى، ومولده بهراة.

وطرسوس: بفتح الطاء المهملة والراء وضم السين المهملة وسكون الواو وبعدها سين ثانية، وهي مدينة بساحل الشام عند السيس والمصيصة بناها المهدي ابن المنصور أبي جعفر في سنة ثمان وستين ومائة، على ما حكاه ابن الجزار في تاريخه.

ومن تصانيفه أيضا المقصور والممدود والقراءات والمذكر والمؤنث وكتاب النسب وكتاب الأحداث وأدب القاضي وعدد آي القرآن والأيمان والنذور والحيض وكتاب الأموال وغير ذلك، رحمه الله تعالى.