الشيخ الشاطبي

أبو محمد القاسم بن فيرة بن أبي القاسم خلف بن أحمد، الرعيني الشاطبي الضرير المقرئ صاحب القصيدة التي سماها حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات، وعدتها ألف ومائة وثلاثة وسبعون بيتا، ولقد أبدع فيها كل الإبداع، وهي عمدة قراء هذا الزمان في نقلهم، فقل من يشتغل بالقراءات إلا ويقدم حفظها ومعرفتها، وهي مشتملة على رموز عجيبة وإشارات خفية لطيفة، وما أظنة سبق إلى أسلوبها، وقد روي عنه أنه كان يقول: لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلا وينفعه الله عز وجل بها، لأني نظمتها لله تعالى مخلصا في ذلك. ونظم قصيدة دالية في خمسمائة بيت من حفظها أحاط علما بكتاب التمهيد لابن عبد البر.

وكان عالما بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيرا، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مبرزا فيه، وكان إذا قرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ تصحح النسخ من حفظه، ويملي النكت على المواضع المحتاج إليها، وكان أوحدا في علم النحو واللغة، عارفا بعلم الرؤيا، حسن المقاصد، مخلصا فيما يقول ويفعل.

وقرأ القرآن الكريم بالروايات على أبي عبد الله محمد بن علي بن محمد بن أبي العاص النفزي المقري وأبي الحسن علي بن محمد بن هذيل الأندلسي، وسمع الحديث من أبي عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة وأبي عبد الله محمد بن عبد الرحيم الخزرجي وأبي الحسن ابن هذيل والحافظ أبي الحسن ابن النعمة وغيرهم وانتفع به خلق كثير، وأدركت من أصحابه جمعا كثيرا بالديار المصرية.

وكان يجتنب فضول الكلام ولا ينطق إلا على طهارة في هيئة حسنة وتخشع واستكانة، وكان يعتل العلة الشديدة فلا يشتكي ولا يتأوه، وإذا سئل عن حاله قال: العافية، لا يزيد على ذلك. أنشدني بعض أصحابه قال: كان الشيخ كثيرا ما ينشد هذا اللغز، وهو في نعش الموتى فقلت له: فهل هو له؟ فقال: لا أعلم، ثم إني وجدته بعد ذلك في ديوان الخطيب أبي زكريا يحيى بن سلامة الحصكفي - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وهو:

أتعرف شيئا في السماء يطـير

 

إذا سار صاح الناس حيث يسير

فتلقاه مركوبا وتلقـاه راكـبـا

 

وكل أمير يعـتـلـيه أسـير

يحض على التقوى ويكره قربه

 

وتنفر منه النفس وهـو نـذير

ولم يستزر عن رغبة في زيارة

 

ولكن على رغم المزور يزور

وكانت ولادته في آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، وخطب ببلدة على فتاء سنى، ودخل مصر سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة. وكان يقول عند دخوله إليها: إنه يحفظ وقر بعير من العلوم، بحيث لو نزل عليه ورقة أخرى لما احتملها، وكان نزيل القاضي الفاضل، ورتبه بمدرسته بالقاهرة متصدرا لإقراء القرآن الكريم وقراءاته والنحو واللغة. وتوفي يوم الأحد بعد صلاة العصر، الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة. ودفن يوم الاثنين في تربة القاضي الفاضل بالقرافة الصغرى، وزرت قبره مرارا، رحمه الله تعالى، وصلى عليه الخطيب أبو إسحاق العراقي - المقدم ذكره - خطيب جامع مصر.

وفيره: بكسر الفاء وسكون الياء المثناة من تحتها وتشديد الراء وضمها، وهو بلغة اللطيني من أعاجم الأندلس ومعناه بالعربي: الحديد.
والرعيني: بضم الراء وفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون، هذه النسبة إلى ذي رعين، وهو أحد أقيال اليمن، نسب إليه خلق كثير.

 والشاطبي: بفتح الشين المعجمة وبعد الألف طاء مكسورة مهملة وبعدها باء موحدة، هذه النسبة إلى شاطبة، وهي مدينة كبيرة ذات قلعة حصينة بشرق الأندلس، خرج منها جماعة من العلماء، استولى عليها الفرنج في العشر الأخير من شهر رمضان، سنة خمس وأربعين وستمائة.

وقيل إن اسم الشيخ المذكور أبو القاسم، وكنيته اسمه، لكن وجدت في إجازات أشياخه له أبو محمد القاسم كما ذكرته ها هنا.