الحريري صاحب المقامات

أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري البصري الحرامي صاحب المقامات، كان أحد أئمة عصره، ورزق الحظوة التامة في عمل المقامات، واشتملت علي شيء كثير من كلام العرب: من لغاتها وأمثالها ورموز أسرار كلامها، ومن عرفها حق معرفتها استدل بها على فضل هذا الرجل وكثرة اطلاعه وغزارة مادته، وكان سبب وضعه لها ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله قال: كان أبي جالسا في مسجده ببني حرام فدخل شيخ ذو طمرين عليه أهبة السفر رث الحال فصيح الكلام حسن العبارة، فسألته الجماعة: من أين الشيخ؟ فقال: من سروج، فاستخبروه عن كنيته فقال: أبو زيد، فعمل أبي المقامة المعروفة بالحرامية، وهي الثامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد المذكور، واشتهرت فبلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر أنوشروان ابن خالد بن محمد القاشاني وزير الإمام المسترشد بالله، فلما وقف عليها أعجبته، وأشار على والدي أن يضم إليها غيرها، فأتمها خمسين مقامة، وإلى الوزير المذكور أشار الحريري في خطبة المقامات بقوله: فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها البديع، وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع هكذا وجدته في عدة تواريخ، ثم رأيت في بعض شهور سنة ست وخمسين وستمائة بالقاهرة المحروسة نسخة مقامات وجميعها بخط مصنفها الحريري، وقد كتب بخطه أيضا على ظهرها: إنه صنفها للوزير جلال الدين عميد الدولة أبي علي الحسن بن أبي العز علي بن صدقة وزير المسترشد أيضا، ولا شك أن هذا أصح من الرواية الأولى لكونه بخط المصنف، وتوفي الوزير المذكور في رجب سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، فهذا كان مستنده في نسبتها إلى أبي زيد السروجي.

وذكر القاضي الأكرم جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف الشيباني القفطي وزير حلب في كتابه الذي سماه إنباه الرواة على أنباه النحاه أن أبا زيد المذكور اسمه المطهر بن سلار، وكان بصيرا نحويا لغويا، صحب الحريري المذكور، واشتغل عليه بالبصرة وتخرج به، وروى عنه القاضي أبو الفتح محمد بن أحمد بن المندائي الواسطي ملحة الأعراب للحريري، وذكر أنه سمعها منه عن الحريري وقال: قدم علينا واسط في سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، فسمعتها منه، وتوجه منها مصعدا إلى بغداد فوصلها وأقام بها مدة يسيرة وتوفي بها، رحمه الله تعالى وكذا ذكره السمعاني في الذيل والعماد في الخريدة وقال: لقبه فخر الدين، وتولى صدرية المشان، ومات بها بعد سنة أربعين وخمسمائة.

وأما تسمية الراوي لها بالحارث بن همام فإنما عنى به نفسه، هكذا وقفت عليه في بعض شروح المقامات، وهو مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم كلكم حارث وكلكم همام فالحارث الكاسب، والهمام الكثير الاهتمام، وما من شخص إلا وهو حارث وهمام، لأن كل واحد كاسب ومهتم بأموره.

وقد اعتنى بشرحها خلق كثير: فمنهم من طول، ومنهم من اختصر.

ورأيت في بعض المجاميع أن الحريري لما عمل المقامات كان قد عملها أربعين مقامة، وحملها من البصرة إلى بغداد وادعاها، فلم يصدقه في ذلك جماعة من أدباء بغداد، وقالوا: إنها ليست من تصنيفه، بل هي لرجل مغربي من أهل البلاغة مات بالبصرة ووقعت أوراقه إليه فادعاها، فاستدعاه الوزير إلى الديوان وسأله عن صناعته، فقال: أنا رجل منشيء، فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعة عينها، فانفرد في ناحية من الديوان، وأخذ الدواة والورقة ومكث زمانا كثيرا فلم يفتح الله سبحانه عليه بشيء من ذلك، فقام وهو خجلان، وكان في جملة من أنكر دعواه في عملها أبو القاسم علي بن أفلح الشاعر - المقدم ذكره - فلما لم يعمل الحريري الرسالة التي اقترحها الوزير أنشد ابن أفلح، وقيل إن هذين البيتين لأبي محمد ابن أحمد المعروف بابن جكينا الحريمي البغدادي الشاعر المشهور:

شيخ لنا من ربيعة الفـرس

 

ينتف عثنونه من الهـوس

أنطقه الله بالمشـان كـمـا

 

رماه وسط الديوان بالخرس

 

وكان الحريري يزعم أنه من ربيعة الفرس، وكان مولعا بنتف لحيته عن الفكرة، وكان يسكن في مشان البصرة، فلما رجع إلى بلده عمل عشر مقامات أخر وسيرهن، واعتذر من عيه وحصره في الديوان بما لحقه من المهابة.


وللحريري تواليف حسان منها درة الغواص في أوهام الخواص ومنها ملحة الاعراب المنظومة في النحو، وله أيضا شرحها، وله ديوان رسائل وشعر كثير غير شعره الذي في المقامات، فمن ذلك قوله وهو معنى حسن:

قال العواذل ما هذا الغرام بـه

 

أما ترى الشعر في خديه قد نبتا

فقلت والله لو أن المفـنـد لـي

 

تأمل الرشد في عينيه ما ثبتـا

ومن أقام بأرض وهي مجـدبة

 

فكيف يرحل عنها والربيع أتى

 

وذكر له العماد الكاتب في الخريدة:

كم ظباء بحـاجـر

 

فتنت بالمحـاجـر

ونفـوس نـفـائس

 

خدرت بالمخـادر

وتثـن لـخـاطـر

 

هاج وجدا لخاطري

وعـذار لأجـلــه

 

عاذلي عاد عاذري

وشجون تضافـرت

 

عند كشف الضفائر

 

وله قصائد استعمل فيها التجنيس كثيرا.


ويحكى أنه كان دميما قبيح المنظر، فجاءه سخص غريب يزوره ويأخذ عنه شيئا، فلما رآه استزرى شكله، ففهم الحريري ذلك منه، فلما التمس منه أن يملي عليه قال له: اكتب:

ما أنت أول سار نحـره قـمـر

 

ورائد أعجبته خضـرة الـدمـن

فاختر لنفسك غيري إنني رجـل

 

مثل المعيدي فاسمع بي ولا ترني

 

فخجل الرجل منه وانصرف.


وكانت ولادة الحريري في سنة ست وأربعين وأربعمائة، وتوفي سنة ست عشرة، وقيل خمس عشرة وخمسمائة بالبصرة، في سكة بني حرام وخلف ولدين، وقال أبو منصور الجواليقي: أجازني المقامات نجم الدين عبد الله وقاضي قضاة البصرة ضياء الإسلام عبيد الله عن أبيهما منشئها.


نسبته بالحراني إلى هذه السكة، رحمه الله تعالى، وهي بفتح الحاء المهملة والراء وبعدها ألف بعده ميم، وبنو حرام: قبيلة من العرب سكنوا في هذه السكة فنسبت إليهم.


والحريري: نسبة إلى الحرير وعمله أو بيعه.


والمشان: بفتح الميم والشين المعجمة وبعد الألف نون، بليدة فوق البصرة كثيرة النخل موصوفة بشدة الوخم، وكان أصل الحريري منها، ويقال إنه كان له بها ثمانية عشر ألف نخلة، وإنه كان من ذوي اليسار.


والوزير أنوشروان المذكور كان نبيلا فاضلا جليل القدر، له تاريخ لطيف سماه صدور زمان الفتور وفتور زمان الصدور ونقل منه العماد الأصبهاني في كتاب نصرة الفترة وعصرة الفطرة الذي ذكر فيه اخبار الدولة السلجوقية نقلا كثيرا، وتوفي الوزير المذكور سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، رحمة الله تعالى. وأما ابن المندائي المذكور فهو أبو الفتح محمد بن أبي العباس أحمد بن بختيار بن علي بن محمد بن إبراهيم بن جعفر الواسطي، المعروف بابن المندائي، وقد أخذ عنه جماعة من الأعيان كالحافظ أبي بكر الحازمي وغيره، وكانت ولادته في شهر ربيع الآخر سنة سبع وخمسمائة بواسط، وتوفي بها في الثامن من شعبان سنة خمس وستمائة، رحمه الله تعالى.


والمندائي: بفتح الميم وسكون النون وفتح الدال المهملة ومد الهمزة.


والمعيدي: بضم الميم وفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة مكسورة وياء مشددة، وقد جاء في المثل تسمع بالمعيدي لا أن تراه وجاء أيضا تسمع بالمعيدي خير من أن تراه وقال المفضل الضبي: أول من تكلم به المنذر بن ماء السماء، قاله لشقة بن ضمرة التميمي الدارمي، وكان قد سمع بذكره، فلما رآه اقتحمته عينه، فقال له هذا المثل وسار عنه، فقال له شقة: أبيت اللعن! إن الرجال ليسوا بجزر يراد منها الأجسام، إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فأعجب المنذر ما رأى من عقله وبيانه. وهذا المثل يضرب لمن له صيت وذكر ولا منظر له، والمعيدي منسوب إلى معد ابن عدنان، وقد نسبوه بعد أن صغروه وخففوا منه الدال.