الإمام مالك

الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غميان - بغين معجمة وياء تحتها نقطتان - ويقال عثمان - بعين مهملة وثاء مثلثة - ابن جثيل - بجيم وثاء مثلثة وياء ساكنة تحتها نقطتان - وقال ابن سعد: هو خثيل بخاء معجمة، ابن عمرو بن ذي أصبح الأصبحي المدني إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأعلام. أخذ القراءة عرضا عن نافع بن أبي نعيم، وسمع الزهري ونافعا مولى ابن عمر، رضي الله عنهما، وروى عنه الأوزاعي ويحيى بن سعيد، وأخذ العلم عن ربيعة الرأي - وقد تقدم ذكره - ثم أفتى معه عند السلطان. وقال مالك: قل رجل كنت أتعلم منه ومات حتى يجيئني ويستفتيني. وقال ابن وهب: سمعت مناديا ينادي بالمدينة: ألا لا يفتي الناس إلا مالك بن أنس وابن أبي ذئب.

وكان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة ثم حدث، فقيل له في ذلك فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحدث به إلا متمكنا على طهارة، وكان يكره أن يحدث على الطريق أو قائما أو مستعجلا ويقول: أحب أن أتفهم ما أحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان لا يركب في المدينة مع ضعفه وكبر سنه، ويقول: لا أركب في مدينة فيها جثة رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفونة.

وقال الشافعي، قال لي محمد بن الحسن: أيهما أعلم صاحبنا أم صاحبكم؟ يعني أبا حنيفة ومالكا، رضي الله عنهما، قال: قلت: على الإنصاف؟ قال: نعم، قال: قلت: ناشدتك الله من أعلم بالقرآن صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال: قلت: ناشدتك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدمين صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال الشافعي: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء، فعلى أي شيء يقيس؟ وقال الواقدي: كان مالك يأتي المسجد، ويشهد الصلوات والجمعة والجنائز، ويعود المرضى ويقضي الحقوق ويجلس في المسجد ويجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس في المسجد فكان يصلي وينصرف إلى مجلسه، وترك حضور الجنائز فكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة ولا يأتي أحدا يعزيه ولا يقضي له حقا، واحتمل الناس له ذلك حتى مات عليه، وكان ربما قيل له في ذلك فيقول: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره.

وسعي به إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما وهو ابن عم أبي جعفر المنصور، وقالوا له: إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه وارتكب منه أمرا عظيما، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة وكأنما كانت السياط حليا حلي به. وذكر ابن الجوزي في شذور العقود في سنة سبع وأربعين ومائة: وفيها ضرب مالك بن أنس سبعين سوطا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان، والله أعلم.

وكانت ولادته في سنة خمس وتسعين للهجرة، وحمل به ثلاث سنين. وتوفي في شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة، رضي الله عنه، فعاش أربعا وثمانين سنة، وقال الواقدي: مات وله تسعون سنة والله أعلم بالصواب وقال ابن الفرات في تاريخه المرتب على السنين: توفي مالك بن أنس الأصبحي لعشر مضين من شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة، وقيل إنه توفي سنة ثمان وسبعين ومائة، وقيل إن مولده سنة تسعين للهجرة، وقال السمعاني في كتاب الأنساب في ترجمة الأصبحي: إنه ولد في سنة ثلاث أو أربع وتسعين، والله أعلم بالصواب.

وحكى الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتاب جذوة المقتبس قال: حدث القعنبي قال: دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلمت عليه، ثم جلست فرأيته يبكي، فقلت: يا أبا عبد الله، ما الذي يبكيك؟ قال فقال لي: يا ابن قعنب، وما لي لا أبكي؟ ومن أحق بالبكاء مني؟ والله لوددت أني ضربت لكل مسألة أفتيت فيها برأيي بسوط سوط، وقد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرأي، أو كما قال.

وكانت وفاته بالمدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، ودفن بالبقيع جوار إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم وكان شديد البياض إلى الشقرة، طويلا عظيم الهامة أصلع، يلبس الثياب العدنية الجياد، ويكره حلق الشارب ويعيبه ويراه من المثلة، ولا يغير شيبه.

ورثاه أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج - وقد سبق ذكره - بقوله:

سقى جدثا ضم البقـيع لـمـالـك

 

من المزن مرعاد السحائب مبراق

إمام موطاه الذي طـبـقـت بـه

 

أقاليم في الدنيا فـسـاح وآفـاق

أقام به شرع النـبـي مـحـمـد

 

له حذر من أن يضام وإشـفـاق

له سند عـال صـحـيح وهـيبة

 

فللكل منه حـين يرويه إطـراق

وأصحاب صدق كلهم علم فـسـل

 

بهم إنهم إن أنت ساءلـت حـذاق

ولو لم يكن إلا ابن إدريس وحـده

 

كفاه ألا إن الـسـعـادة أرزاق

 والأصبحي: بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة وبعدها حاء مهملة، هذه النسبة الى ذي أصبح، واسمه الحارث بن عوف بن مالك بن زيد بن شداد بن زرعة، وهو من يعرب بن قحطان، وهي قبيلة كبيرة باليمن، واليها تنسب السياط الأصبحية. وقال هشام بن الكلبي في جهرة النسب ذو أصبح هو الحارث بن مالك بن زيد بن غوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جثم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن همسيع بن حمير بن سبأبن يشجب بن يعرب بن قحطان، واسمه يقطن، بن عابر بن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، والذي ذكرناه أولا ذكره الحازمي في كتاب العجالة والله أعلم بالصواب.