الليث بن سعد

أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن إمام أهل مصر في الفقه والحديث، كان مولى قيس بن رفاعة، وهو مولى عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي وأصله من أصبهان، وكان ثقة سريا سخيا، قال الليث: كتبت من علم محمد ابن شهاب الزهري علما كثيرا، وطلبت ركوب البريد إليه إلى الرصافة، فخفت أن لا يكون ذلك لله تعالى فتركته.

وقال الشافعي رضي الله عنه: الليث بن سعد أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به. وكان ابن وهب تقرأ عليه مسائل الليث، فمرت به مسألة فقال رجل من الغرباء: أحسن والله الليث، كأنه كان يسمع مالكا يجيب فيجيب هو، فقال ابن وهب للرجل: بل كان مالك يسمع الليث يجيب فيجيب هو، والله الذي لا إله إلا هو ما رأينا أحدا قط أفقه من الليث.

وكان من الكرماء الأجواد، ويقال إن دخله كان هو كل سنة خمسة آلاف دينار، وكان يفرقها في الصلات وغيرها. وقال منصور بن عمار: أتيت الليث فأعطاني ألف دينار وقال: صن بهذه الحكمة التي آتاك الله تعالى. ورأيت في بعض المجاميع أن الليث كان حنفي المذهب، وأنه ولي القضاء بمصر، وأن الإمام مالكا أهدى إليه صينية فيها تمر، فأعادها مملوءة ذهبا، وكان يتخذ لأصحابه الفالوذج، ويعمل فيه الدنانير ليحصل لكل من أكل كثيرا أكثر وكان قد حج سنة ثلاث عشرة ومائة وهو ابن عشرين سنة، وسمع من نافع مولى ابن عمر، رضي الله عنهما.

وكان الليث يقول، قال لي بعض أهلي: ولدت سنة اثنتين وتسعين للهجرة والذي أوقن سنة أربع وتسعين في شعبان. وتوفي يوم الخميس - وقيل الجمعة - منتصف شعبان سنة خمس وسبعين ومائة ومائة ودفن يوم الجمعة بمصر في القرافة الصغرى، وقبره أحد المزارات، رضي الله عنه. وقال السمعاني: ولد في شعبان سنة أربع وعشرين ومائة، والأول أصح. وقال غيره: ولد سنة ثلاث وتسعين، والله أعلم بالصواب.

وقال بعض أصحابه: لما دفنا الليث بن سعد سمعنا صوتا وهو يقول:

ذهب الليث فلا ليث لكم

 

ومضى العلم قريبا وقبر

قال فالتفتنا فلم نر أحدا.

ويقال: إنه من أهل قلقشندة، وهي بفتح القاف وسكون اللام وفتح القاف الثانية والشين المعجمة وسكون النون وفتح الدال المهملة وبعدها هاء ساكنة، وهي قرية من الوجه البحري من القاهرة، بينها وبين القاهرة مقدار ثلاثة فراسخ.

والفهمي: بفتح الفاء وسكون الهاء وبعدها ميم، هذه النسبة إلى فهم وهو بطن من قيس عيلان خرج منها جماعة كثيرة.

ب-الليث بن سعد أبو الحارث الليث... سريا سخيا.

ولد بقلقشندة سنة أربع وتسعين، وسمع علماء المصريين والحجازيين وروى عن عطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة وابن شهاب الزهري ونافع مولى ابن عمر وغيرهم، وحدث عنه هشيم بن بشير وعبد الله بن المبارك وعبد الوهاب بن وهب وعبد الله بن عبد الحكم ويحيى بن بكير وغيرهم. وقدم بغداد وحدث بها. قال الليث: كتبت من علم ابن شهاب الزهري علما كثيرا وطلبت ركوب البريد إليه إلى الرصافة فخفت أن لا يكون ذلك لله تعالى فتركته.

قال الخطيب صاحب تاريخ بغداد: خرج الليث إلى العراق سنة إحدى وستين ومائة وخرج في شوال وشهد الأضحى ببغداد.

وقال الشافعي...أفقه من الليث.

قال أبو الحسن الخادم: كنت غلاما لزبيدة وأتي يوما بالليث ين سعد، فكنت واقفا على رأس زبيدة خلف الستارة فسأله هارون الرشيد فقال: حلفت أن لي جنتين؟ فاستحلفه الليث ثلاثا انك تخاف الله فحلف له، فقال له الليث: قال الله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان)، قال: فأقطعه قطائع كثيرة بمصر.

قال الليث بن سعد: قال لي أبو جعفر: تلي لي مصر؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين إني أضعف عن ذلك، إني رجل من الموالي، فقال: ما بك ضعف معي، ولكن ضعفت نيتك في العمل عن ذلك لي.

وحج الليث سنة ثلاث عشرة فسمع من ابن شهاب وغيره بمكة في هذه السنة.

وقال الليث: حججت سنة ثلاث عشرة وأنا ابن عشرين سنة.

وقال يحيى بن بكير: ما رأيت أحدا أكمل من الليث بن سعد، كان فقيه البدن عربي اللسان يحسن القرآن والنحو ويحفظ الشعر والحديث حسن المذاكرة - وما زال يذكر خصالا جميلة ويعقد بيده حتى عقد عشرة - لم أر مثله.

قال سعيد بن أبي أيوب: لو أن مالكا والليث اجتمعا لكان مالك عند الليث أبكم ولباع الليث مالكا في من يزيد.

وقال ابن وهب: كل ما كان في كتب مالك وأخبرني من أثق به من أهل العلم فهو الليث بن سعد، وقال ابن وهب: لولا مالك والليث بن سعد لضل الناس.

وقال عثمان بن صالح: كان أهل مصر ينتقصون عثمان حتى نشأ فيهم الليث ابن سعد فحدثهم بفضائل عثمان فكفوا عن ذلك، وكان أهل حمص ينتقصون عليا حتى نشأ فيهم إسماعيل بن عياش فحدثهم بفضائله فكفوا عن ذلك.

 وقال ابن وهب: كان الليث بن سعد يصل مالك بن أنس بمائه دينار في كل سنة، فكتب إليه مالك: إن علي دينا، فبعث إليه بخمسمائة دينار، وكتب إليه مالك: إني أريد أن أدخل ابنتي على زوجها فأحب أن تبعث إلي شيئا من عصفر، فبعث إليه ثلاثين حملا من عصفر فصبغ لابنته وباع منه بخمسمائة دينار وبقي عنده فضلة.

وقال قتيبة بن سعيد: كان الليث يستغل عشرين ألف دينار في كل سنة.

وقال: ما وجبت علي زكاة قط.

وقال محمد بن رمح: كان دخل الليث بن سعد في كل سنة ثمانين ألف دينار وما أوجب الله عليه زكاة درهم قط.

قال منصور بن عمار: أتيت الليث بن سعد فأعطاني ألف دينار وجارية تسوى ثلاثمائة دينار وقال صن بهذه الحكمة.

وجاءت امرأة إلى الليث فقالت: يا أبا الليث فقالت: يا أبا الحارث، إن ابنا لي عليل واشتهى عسلا، فقال: يا غلام، اعطها مرطا من عسل، والمرط عشرون ومائة رطل، وقال غيره: سألت المرأة منا من عسل فأمر لها بزق فقال له كاتبه: إنما سألت منا فقال: إنها سألتني على قدرها فأعطيناها على قدر السعة.

وقال الحارث بن مسكين: اشترى قوم من الليث بن سعد ثمرة فاستغلوها فاستقالوه فأقالهم ثم دعا بخريطة فيها أكياس فأمر لهم بخمسمائة دينار، فقال له الحارث ابنه في ذلك فقال: اللهم غفرا، إنهم كانوا أملوا فيه أملا فأحببت أن أعوضهم من أملهم بهذا.

وقال شعيب بن الليث: خرجت مع أبي حاجا فقدم المدينة فبعث إليه مالك بن أنس بطبق رطب فجعل على الطبق ألف دينار ورده إليه.

قال أشهب بن عبد العزيز: كان لليث بن سعد كل يوم أربعة مجالس يجلس فيها، أما أولها فيجلس ليأتيه السلطان في نوائبه وحوائجه، وكان الليث يغشاه السلطان فإن أنكر من القاضي أمرا أو من السلطان كتب إلى أمير المؤمنين فيأتيه العزل، ويجلس لأصحاب الحديث، وكان يقول: نجحوا أصحاب الحوانيت فإن قلوبهم معلقة بأسواقهم، ويجلس للمسائل يغشاه الناس فيسألونه، ويجلس لحوائج الناس لا يسأله أحد من الناس فيرده، كبرت حاجته أو صغرت، قال: وكان يطعم الناس في الشتاء الهرائس بعسل النحل وسمن البقر، وفي الصيف سويق اللوز بالسكر.

قال أبو رجاء قتيبة: قفلنا مع الليث بن سعد من الإسكندرية وكان معه ثلاث سفائن: سفينة فيها مطبخه، وسفينة فيها عياله، وسفينة فيها أضيافه.

وقال ابن بكير: سمعت الليث بن سعد كثيرا ما يقول: أنا أكبر من ابن لهيعة، والحمد لله الذي متعنا بعقلنا. وكان الليث أكبر من ابن لهيعة ولكن إذا نظرت إليهما تقول ذا ابن وذا أب، يعني ابن لهيعة الأب.

وقيل لليث بن سعد: ما صلاح بلدك يا أبا الحارث؟ قال: جرى نيلها وعدل واليها ومن رأس العين يأتي الكدر.

وقال أبو محمد ابن أبي القاسم: قلت لليث: أمتع الله بك يا أبا الحارث، إنا نسمع منك الحديث ليس في كتبك، قال: أو كل ما في صدري في كتبي؟ لو كتبت ما في صدري ما وسعه هذا المركب.

ورأيت في بعض المجاميع... وقبره أحد المزارات رضي الله عنه.

قال محمد بن عبد الرحمن: كنت جالست الليث بن سعد وشهدت جنازته وأنا مع أبي، فما رأيت جنازة أعظم منها ولا أكثر من أهلها، ورأيت كلهم عليهم الحزن والناس يعزي بعضهم بعضا ويبكون، فقلت لأبي: يا أب، كل واحد من الناس صاحب الجنازة، فقال لي: يا بني كان عالما سعيدا كريما حسن الفعل كثير الأفضال، يا بني لا ترى مثله أبدا.

ويقال إنه من أهل قلقشندة...جماعة كثيرة.