العتابي

كلثوم بن عمرو العتابي الشاعر المشهور، كان شاعرا خطيبا بليغا مجيدا، وهو من أهل قنسرين وقدم بغداد ومدح هارون الرشيد وغيره من الخلفاء، وله رسائل مستحسنة، وكان يتجنب غشيان السلطان قناعة وصيانة وتنزها وتعززا، وكان يلبس الصوف ويظهر الزهد، مترسل بليغ مطبوع متصرف في فنون من الشعر مقدم في الخطابة والرواية حسن العارضة والبديهة، من شعراء الدولة العباسية، وكان يقول بالاعتزال، فاتصل بالرشيد وكثر عليه من أمره فأمر فيه بأمر غليظ فهرب إلى اليمن وكان مقيما بها، فاحتال يحيى بن خالد إلى أن حمل للرشيد من خطبه ورسائله فاستحسن الرشيد ذلك وسأل عن الكلام لمن هو فقال يحيى: هو للعتابي، ولو حضر حتى يسمع منه الأمين والمأمون هذا الكلام ويصنع لهما خطبا لكان في ذلك صلاح، فأمر بإحضاره، فأخذ له يحيى الأمان واتصل الخبر بالعتابي فقال:

ما زلت في غمرات الموت منطرحا

 

قد غاب عني وجوه الأمر من حيلي

فلم تزل دائبا تسعى لـتـنـقـذنـي

 

حتى استللت حياتي من يدي أجلـي

 

 وكان العتابي منقطعا إلى البرامكة، ومنصور النمري روايته وتلميذه.


قال أبو دعامة الشاعر: كتب طوق بن مالك إلى العتابي يستزيره ويدعوه إلى أن يصل القرابة بينه وبينه، فرد عليه: إن قريبك من قرب منك خيره وابن عمك من عمك نفعه وإن عشيرك من أحسن عشرتك وإن أحب الناس إليك أجراهم بالمنفعة عليك، ولذلك أقول:

ولقد بلوت الناس ثم سبرتـهـم

 

وخبرت ما وصلوا من السباب

فإذا القرابة لا تقرب قاطـعـا

 

وإذا المودة أكبر الأنـسـاب

 

قيل للعتابي: انك تلقى العامة ببشر وتقريب فقال: رفع ضغينة بأيسر مؤنة واكتساب إخوان بأهون مبذول.


ولما قدم العتابي مدينة السلام على المأمون أذن له فدخل وعنده إسحاق الموصلي، وكان العتابي شيخا جليلا نبيلا، فسلم فرد عليه وأدناه وقربه حتى قرب منه فقبل يده، ثم أمره بالجلوس فجلس، ثم أقبل عليه يسأله عن حاله وهو يجيبه بلسان طلق، فاستطرف المأمون ذلك منه فأقبل عليه بالمداعبة بالمزح، فظن الشيخ أنه استخف به فقال: يا أمير المؤمنين، الإيناس قبل الإبساس، فاشتبه على المأمون قوله فنظر إلى إسحاق مبتسما فأومأ إليه بعينه وغمزه على معناه حتى فهمه ثم قال: يا غلام، ألف دينار، فأتي بذلك فوضعه بين يدي العتابي وأخذوا في الحديث، ثم غمز المأمون إسحاق بن إبراهيم عليه، فجعل العتابي لا يأخذ في شيء إلا عارضه فيه إسحاق بن إبراهيم، فبقي العتابي متعجبا ثم قال: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في مسألة هذا الشيخ عن اسمه؟ قال: نعم سله، فقال إسحاق: يا شيخ، من أنت وما اسمك؟ قال: أنا من الناس واسمي كل بصل، فتبسم العتابي ثم قال: أما النسب فمعروف وأما الاسم فمنكر، فقال له إسحاق: ما أقل انصافك! أتنكر أن يكون اسمي كل بصل واسمك كل ثوم؟ وما كلثوم من الأسماء؟ أو ليس البصل أطيب من الثوم؟ فقال له العتابي لله درك ما أحجك، أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أصله بما وصلتني به؟ فقال له المأمون: بل ذلك موفر عليك ونأمر له بمثله، فقال له إسحاق: أما إذا أقررت بهذه فتوهمني تجدني، فقال له: ما أظنك إلا إسحاق الموصلي الذي تناهى إلينا خبره، فقال: أنا حيث ظننت، فأقبل عليه بالتحية والسلام، فقال المأمون وقد طال الحديث بينهما: أما إذا اتفقتما على المودة فانصرفا، فانصرف العتابي إلى منزل إسحاق فأقام عنده.


كتب المأمون في إشخاص العتابي فلما دخل عليه قال له: يا كلثوم بلغني وفاتك فساءني ثم يلغني وفادتك فسرتني، فقال له العتابي: يا أمير المؤمنين، لو قسمت هاتان الكلمتان على أهل الأرض لوسعتهم فضلا وإنعاما وقد خصصتني منهما بما لا يتسع له أمنية ولا ينبسط لسواه أمل، لأنه لا دين إلا بك ولا دنيا إلا معك، قال: سلني، قال: يدك بالعطاء أطلق من لساني بالمسألة، فوصله صلة سنية وبلغ به من التقديم والإكرام أعلى محل.

 

قال الأصمعي: كتب كلثوم بن عمرو العتابي إلى رجل:

ان الكريم ليخفى عنك عسرته

 

حتى تراه غنيا وهو مجهـود

وللبخيل على أموالـه عـلـل

 

زرق العيون عليها أوجه سود

بث النوال ولا يمنعك قلـتـه

 

فكل ما سد فقرا فهو محمود

قال: فشاطره ماله حتى بعث إليه بنصف خاتمه وفرد نعله.

قال مالك بن طوق للعتابي: يا أبا عمرو، رأيتك كلمت فلانا فأقللت كلامك، قال: نعم كانت معي حيرة الداخل وفكرة صاحب الحاجة وذل المسألة وخوف الرد مع شدة الطمع.

وقيل للعتابي: قد فلح -؟ - ابن مسلم الخلق، قال: لعله أكل من شعره. ومثل ذلك اجتمع قوم من الشعراء على فالوذجة حارة فقال أحدهم يخاطب شخصا منهم: كأنها مكانك من النار، قال له: أصلحها ببيب من شعرك.

قيل: كان مروان بن السمط يرمى في شعره بالبرد، وكانت له بغلة بالبصرة لا يفارق ركوبها فقال الجماز يهجوه...