مظفر الدين صاحب إربل

أبو سعيد كوكبوري بن أبي الحسن علي بن بكتكين بن محمد، الملقب الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل.

كان والده زين الدين علي المعروف بكجك صاحب إربل، ورزق أولادا كثيرة، وكان قصيرا، ولهذا قيل له كجك وهو لفظ أعجمي معناه بالعربي صغير: أي صغير القدر، وأصله من التركمان، وملك إربل وبلادا كثيرة في تلك النواحي، وفرقها على أولاد أتابك قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل ولم يبق له سوى إربل، والشرح يطول، وعمر طويلا، يقال إنه جاوز مائة سنة وعمي في آخر عمره، وانقطع بإربل إلى أن توفي بها ليلة الأحد حادي عشر ذي القعدة سنة ثلاث وستين وخمسمائة وقال ابن شداد في سيرة صلاح الدين: مات في ذي الحجة من السنة ودفن في تربته المعروفة به المجاورة للجامع العتيق داخل البلد رحمه الله تعالى، وكان موصوفا بالقوة المفرطة والشهامة، وله بالموصل أوقاف كثيرة مشهورة من مدارس وغيرها.

قال شيخنا الحافظ عز الدين أبو الحسن علي المعروف بابن الأثير الجزري في تاريخه الصغير الذي عمله لبني أتابك ملوك الموصل: إن زين الدين المذكور سار عن الموصل إلى إربل سنة ثلاث وستين وخمسمائة، وسلم جميع ما كان بيده من البلاد والقلاع إلى أتابك قطب الدين، فمن ذلك سنجار وحران وقلعة عقر الحميدية وقلاع الهكارية جميعها وتكريت وشهرزور وغير ذلك، وما ترك لنفسه سوى إربل، وكان قد حج هو وأسد الدين شيركوه بن شاذي في سنة خمس وخمسين وخمسمائة.

ولما توفي ولي موضعه ولده مظفر الدين المذكور وعمره أربع عشرة سنة، وكان أتابكه مجاهد الدين قايماز - المذكور في حرف القاف - فأقام مدة، ثم تعصب مجاهد الدين عليه، وكتب محضرا أنه ليس أهلا لذلك، وشاور الديوان العزيز في أمره واعتقله، وأقام أخاه زين الدين أبا مظفر يوسف مكانه، وكان أصغر منه، ثم أخرج مظفر الدين من البلاد، فتوجه إلى بغداد فلم يحصل له بها مقصوده، فانتقل إلى الموصل ومالكها يومئذ سيف الدين غازي بن مودود - المقدم ذكره في حرف الغين -، فاتصل بخدمته، وأقطعه مدينة حران، فانتقل إليها وأقام بها مدة، ثم اتصل بخدمة السلطان صلاح الدين، وحظي عنده، وتمكن منه، وزاده في الاقطاع الرها في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وأخذ صلاح الدين الرها من ابن الزغفراني وأعطاها مظفر الدين مع حران، وأخذ الرقة من ابن حسان وأعطاها ابن الزعفراني، والشرح في ذلك يطول، ثم أعطاه سميساط، وزوجه أخته الست ربيعة خاتون بنت أيوب، وكانت قبله زوجة سعد الدين مسعود بن معين الدين صاحب قصر معين الدين الذي بالغور، وتوفي سعد الدين المذكور سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. وشهد مظفر الدين مع صلاح الدين مواقف كثيرة وأبان فيها عن نجدة وقوة نفس وعزيمة، وثبت في مواضع لم يثبت فيها غيره على ما تضمنته تواريخ العماد الأصبهاني وبهاء الدين بن شداد وغيرهما، وشهرة ذلك تغني عن الإطالة فيه، ولو لم يكن له إلا وقعة حطين لكفته، فانه وقف هو وتقي الدين صاحب حماة - المقدم ذكره - وانكسر العسكر بأسره، ثم لما سمعوا بوقوفهما تراجعوا حتى كانت النصرة للمسلمين، وفتح الله سبحانه عليهم. ثم لما كان السلطان صلاح الدين منازلا عكا بعد استيلاء الفرنج عليها وردت عليه ملوك الشرق تنجده وتخدمه، وكان في جملتهم زين الدين يوسف أخو مظفر الدين، وهو يومئذ صاحب إربل، فأقام قليلا ثم مرض، وتوفي في الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة ست وثمانين وخمسمائة بالناصرة - وهي قرية بالقرب من عكا يقال إن المسيح عليه الصلاة والسلام ولد بها على الاختلاف الذي في ذلك - فلما توفي التمس مظفر الدين من السلطان أن ينزل عن حران والرها وسميساط، ويعوضه إربل، فأجابه إلى ذلك وضم إليه شهرزور، فتوجه إليها ودخل إربل في ذي الحجة سنة ست وثمانين وخمسمائة، هذه خلاصة أمره.

وأما سيرته الذاتية فلقد كان له في فعل الخيرات غرائب لم يسمع أن أحدا فعل في ذلك ما فعله، لم يكن في الدنيا شيء أحب إليه من الصدقة، كان له كل يوم قناطير مقنطرة من الخبز يفرقها على المحاويج في عدة مواضع من البلد يجتمع في كل موضع خلق كثير يفرق عليهم في أول النهار، وكان إذا نزل من الركوب يكون قد اجتمع عند الدار خلق كثير فيدخلهم إليه ويدفع لكل واحد كسوة على قدر الفصل من الشتاء والصيف أو غير ذلك، ومع الكسوة شيء من الذهب من الدينار والاثنين والثلاثة وأقل وأكثر، وكان قد بنى أربع خانقاهات للزمنى والعميان وملأها من هذين الصنفين، وقرر لهم ما يحتاجون إليه كل يوم، وكان يأتيهم بنفسه في كل عصرية اثنين وخميس ويدخل عليهم، ويدخل إلى كل واحد في بيته، ويسأله عن حاله ويتفقده بشيء من النفقة، وينتقل إلى الآخر، وهكذا حتى يدور على جميعهم، وهو يباسطهم ويمزح معهم ويجبر قلوبهم، وبنى دارا للنساء الأرامل، ودارا للصغار الأيتام، ودارا للملاقيط رتب بهم جماعة من المراضع، وكل مولود يلتقط يحمل إليهن فيرضعنه، وأجرى على أهل كل دار ما يحتاجون إليه في كل يوم، وكان يدخل إليها في كل وقت ويتفقد أحوالهم ويعطيهم النفقات زيادة على المقرر لهم، وكان يدخل إلى البيمارستان ويقف على مريض مريض ويسأله عن مبيته وكيفية حاله وما يشتهيه وكان له دار مضيف يدخل إليها كل قادم على البلد من فقيه أو فقير أو غيرهما، وعلى الجملة فما كان يمنع منها كل من قصد الدخول إليها، ولهم الراتب الدار في الغداء والعشاء، وإذا عزم الإنسان على السفر أعطوه نفقة على ما يليق بمثله، وبنى مدرسة رتب فيها فقهاء الفريقين من الشافعية والحنفية، وكان كل وقت يأتيها بنفسه، ويعمل السماط بها ويبيت بها ويعمل السماع، فإذا طاب وخلع شيئا من ثيابه، سير للجماعة بكرة شيئا من الأنعام، ولم يكن له لذة سوى السماع، فإنه كان لا يتعاطى المنكر، ولا يمكن من إدخاله إلى البلد، وبنى للصوفية خانقاهين فيهما خلق كثير من المقيمين والواردين، ويجتمع في أيام المواسم فيهما من الخلق ما يعجب الإنسان من كثرتهم، ولهما أوقاف كثيرة تقوم بجميع ما يحتاج إليه ذلك الخلق، ولا بد عند سفر كل واحد من نفقة يأخذها، وكان ينزل بنفسه إليهم ويعمل عندهم السماعات في كثير من الأوقات.

وكان يسير في كل سنة دفعتين جماعة من امنائه إلى بلاد الساحل ومعهم جملة مستكثرة من الناس يفتك بها أسرى المسلمين من أيدي الكفار، فإذا وصلوا إليه أعطى كل واحد شيئا، وإن لم يصلوا فالأمناء يعطونهم بوصية منه في ذلك. وكان يقيم في كل سنة سبيلا للحاج، ويسير معه جميع ما تدعو حاجة المسافر إليه في الطريق، ويسير صحبته أمينا معه خمسة أو ستة آلاف دينار ينفقها بالحرمين على المحاويج وأرباب الرواتب، وله بمكة حرسها الله تعالى، آثار جميلة وبعضها باق إلى الآن، وهو أول من أجرى الماء إلى جبل عرفات ليلة الوقوف: وغرم عليه جملة كثيرة، وعمر بالجبل مصانع للماء، فإن الحجاج كانوا يتضررون من عدم الماء، وبنى له تربة أيضا هناك.

وأما احتفاله بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الوصف يقصر عن الإحاطة به، لكن نذكر طرفا منه: وهو أن أهل البلاد كانوا قد سمعوا بحسن اعتقاده فيه، فكان في كل سنة يصل إليه من البلاد القريبة من إربل - مثل بغداد والموصل والجزيرة وسنجار ونصيبين وبلاد العجم وتلك النواحي - خلق كثير من الفقهاء والصوفية والوعاظ والقراء والشعراء، ولا يزالون يتواصلون من المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول، ويتقدم مظفر الدين بنصب قباب من الخشب كل قبة أربع أو خمس طبقات، ويعمل مقدار عشرين قبة وأكثر، منها قبة له، والباقي للأمراء وأعيان دولته لكل واحد قبة، فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المستجملة، وقعد في كل قبة جوق من المغاني وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي، ولم يتركوا طبقة من تلك الطباق في كل قبة حتى رتبوا فيها جوقا، وتبطل معايش الناس في تلك المدة، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم، وكانت القباب منصوبة من باب القلعة إلى باب الخانقاه المجاورة للميدان، فكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر ويقف على قبة قبة إلى آخرها، ويسمع غناءهم، ويتفرج على خيالاتهم وما يفعلونه في القباب، ويبيت في الخانقاه ويعمل السماع ويركب عقيب صلاة الصبح يتصيد، ثم يرجع إلى القلعة قبل الظهر، هكذا يعمل كل يوم إلى ليلة المولد، وكان يعمله سنة في ثامن الشهر، وسنة في الثاني عشر، لأجل الاختلاف الذي فيه، فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئا كثيرا زائدا عن الوصف وزفها بجميع ما عنده من الطبول والمغاني والملاهي حتى يأتي بها إلى الميدان، ثم يشرعون في نحرها، وينصبون القدور ويطبخون الألوان، المختلفة فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيئ كثير، وفي جملتها شمعتان أو أربع - أشك في ذلك - من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل، ومن ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على ظهر البغل حتى ينتهي إلى الخانقاه، فإذا كان صبيحة يوم المولد أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية، على يد كل شخص منهم بقجة، وهو متتابعون كل واحد وراء الآخر، فينزل من ذلك شيء كثير لا أتحقق عدده، ثم ينزل إلى الخانقاه وتجتمع الأعيان والرؤساء وطائفة كبيرة من بياض الناس، وينصب كرسي للوعاظ، وقد نصب لمظفر الدين برج خشب له شبابيك إلى الموضع الذي فيه الناس والكرسي، وشبابيك أخر للبرج أيضا إلى الميدان، وهو ميدان كبير في غاية الاتساع، ويجتمع فيه الجند ويعرضهم ذلك النهار، وهو تارة ينظر إلى عرض الجند وتارة إلى الناس والوعاظ، ولا يزال كذلك حتى يفرغ الجند من عرضهم، فعند ذلك يقدم السماط في الميدان للصعاليك، ويكون سماطا عاما فيه من الطعام والخبز شيء كثير لا يحد ولا يوصف، ويمد سماطا ثانيا في الخانقاه للناس المجتمعين عند الكرسي، وفي مدة العرض ووعظ الوعاظ يطلب واحدا واحدا من الأعيان والرؤساء والوافدين لأجل هذا الموسم ممن قدمنا ذكره من الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء، ويخلع على كل واحد ثم يعود إلى مكانه، فإذا تكامل ذلك كله، حضروا السماط وحملوا منه لمن يقع التعيين على الحمل إلى داره، ولا يزالون على ذلك إلى العصر أو بعدها، ثم يبيت تلك الليلة هناك، ويعمل السماعات إلى بكرة، هكذا يعمل في كل سنة، وقد لخصت صورة الحال فإن الاستقصاء يطول، فإذا فرغوا من هذا الموسم تجهز كل إنسان للعود إلى بلده، فيدفع لكل شخص شيئا من النفقة، وقد ذكرت في ترجمة الحافظ أبي الخطاب ابن دحية في حرف العين وصوله إلى إربل وعمله لكتاب التنوير في مولد السراج المنير لما رأى من اهتمام مظفر الدين به، وأنه أعطاه ألف دينار غير ما غرم عليه مدة إقامته من الإقامات الوافرة.

وكان رحمه الله متى أكل شيئا استطابه لا يختص به، بل إذا أكل من زبدية لقمة طيبة قال لبعض الجنادرة: احمل هذا إلى الشيخ فلان أو فلانة ممن هم عنده مشهورون بالصلاح، وكذلك يعمل في الفاكهة والحلوى وغير ذلك من المطاعم.

وكان كريم الأخلاق كثير التواضع حسن العقيدة سالم البطانة شديد الميل إلى أهل السنة والجماعة لا ينفق عنده من أرباب العلوم سوى الفقهاء والمحدثين ومن عداهما لا يعطيه شيئا إلا تكلفا، وكذلك الشعراء لا يقول بهم ولا يعطيهم إلا إذا قصدوه فما كان يضيع قصدهم ولا يخيب أمل من يطلب بره، وكان يميل إلى علم التاريخ، وعلى خاطره منه شيء يذاكر به، ولم يزل، رحمه الله تعالى، مؤيدا في مواقفه ومصافاته مع كثرتها، لم ينقل أنه انكسر في مصاف قط، ولو استقصيت في تعداد محاسنه لطال الكتاب، وفي شهرة معروفه غنية عن الإطالة وليعذر الواقف على هذه الترجمة ففيها تطويل، ولم يكن سببه إلا ما له علينا من الحقوق التي لا نقدر على القيام بشكر بعضها، ولو عملنا مهما عملناه، وشكر المنعم واجب، فجزاه الله عنا أحسن الجزاء، فكم له علينا من الأيادي، ولأسلافه على أسلافنا من الإنعام، والإنسان صنيعة الإحسان، ومع الاعتراف بجميله فلم أذكر عنه شيئا على سبيل المبالغة، بل كل ما ذكرته عن مشاهدة وعيان، وربما حذفت بعضه طلبا للإيجاز.

وكانت ولادته بقلعة الموصل ليلة الثلاثاء السابعة والعشرين من المحرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة. وتوفي وقت الظهر ليلة الجمعة رابع عشر شهر رمضان سنة ثلاثين وستمائة بداره في البلد التي كانت لمملوكه شهاب الدين قراطايا، فلما قبض عليه في سنة أربع عشرة وستمائة أخذها وصار يسكنها بعض الأوقات، فمات بها، ثم نقل إلى قلعة إربل ودفن بها، ثم حمل بوصية منه إلى مكة، شرفها الله تعالى، وكان قد أعد له بها قبة تحت الجبل في ذيله يدفن فيها، وقد سبق ذكرها، فلما توجه الركب إلى الحجاز سنة إحدى وثلاثين سيروه في الصحبة، فاتفق أن رجع الحاج تلك السنة من لينة، ولو يصلوا إلى مكة، فردوه ودفنوه بالكوفة بالقرب من المشهد، رحمه الله تعالى وعوضه خيرا وتقبل مباره وأحسن منقلبه.

وأما زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب فإنها توفيت في شعبان سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وغالب ظني أنها جاوزت ثمانين سنة، ودفنت في مدرستها الموقوفة على الحنابلة بسفح قاسيون، وكانت وفاتها بدمشق، وأدركت من محارمها من الملوك من إخوتها وأولادهم أكثر من خمسين رجلا غير محارمها من غير الملوك ولولا خوف الإطالة لذكرتهم مفصلا، فإن إربل كانت لزوجها المذكور، والموصل لأولاد بنتها، وخلاط وتلك الناحية لابن أخيها الملك الأوحد نجم الدين أيوب ابن الملك العادل، وبلاد الجزيرة الفراتية للأشرف ابن أخيها، وبلاد الشام لأولاد إخوتها، والديار المصرية والحجازية واليمن لإخوتها وأولادهم، ومن تأمل ذلك عرف الجميع.

وكوكبوري: بضم الكافين بينهما واو ساكنة ثم باء موحدة مضمومة ثم واو ساكنة وبعدها راء، وهو اسم تركي معناه بالعربي ذئب أزرق.

وبكتكين: بضم الباء الموحدة وسكون الكاف وكسر التاء المثناة من فوقها والكاف وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون وهو اسم تركي أيضا.

ولينة: بكسر اللام وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح النون وبعدها هاء ساكنة، منزلة في طريق الحجاز من جهة العراق، وكان الركب في تلك السنة قد رجع منها لعدم الماء وقاسوا مشقة عظيمة.