شرف الدين ابن المستوفي

أبو البركات المبارك بن أبي الفتح أحمد بن المبارك بن موهوب بن غنيمة بن غالب اللخمي، الملقب شرف الدين، المعروف بابن المستوفي الإربلي، كان رئيسا جليل القدر كثير التواضع واسع الكرم، لم يصل إلى إربل أحد من الفضلاء إلا وبادر إلى زيارته وحمل إليه ما يليق بحاله، ويقرب إلى قلبه بكل طريق، وخصوصا أرباب الأدب فقد كانت سوقهم لديه نافقة. وكان جم الفضائل عارفا بعدة فنون، منها الحديث وعلومه وأسماء رجاله وجميع ما يتعلق به، كان إماما فيه. وكان ماهرا في فنون الأدب من النحو واللغة والعروض والقوافي وعلم البيان وأشعار العرب وأخبارها وأيامها ووقائعها وأمثالها. وكان بارعا في علم الديوان وحسابه وضبط قوانينه على الأوضاع المعتبرة عندهم.
وجمع لإربل تاريخا في أربع مجلدات، وقد احلت عليه في هذا الكتاب في مواضع عديدة، وله كتاب النظام في شرح شعر المتنبي وأبي تمام في عشر مجلدات، وكتاب إثبات المحصل في نسبة أبيات المفصل في مجلدين تكلم فيه على الأبيات التي استشهد بها الزمخشري في المفصل وله كتاب سر الصنعة وله كتاب سماه أبا قماش جمع فيه أدبا كثيرا ونوادر وغيرها.

وسمعت منه كثيرا، وسمعت بقراءته على المشايخ الواردين على إربل شيئا كثيرا فإنه كان يعتمد القراءة بنفسه، وله ديوان شعر أجاد فيه، فمن شعره بيتان فضل فيهما البياض على السمرة، وهما:

لا تخدعنك سمـرة غـرارة

 

ما الحسن إلا للبياض وجنسه

فالرمح يقتل بعضه من غيره

 

والسيف يقتل كله من نفسه

 

وقد أخذ هذا المعنى من قول أبي الندى حسان بن نمير الكلبي المعروف بالعرقلة الدمشقي الشاعر المشهور، وهو:

إن كنت بالأسمر الزيتي مفتتنـا

 

فسل عن الأبيض الفضي بلبالي

إن كان في الرمح شبر قاتل أبدا

 

ففي المهند شبر غير قـتـال

 

ولما نظم شرف الدين بيتيه هذين قال بعض الأدباء: لو قال إن بعض الرمح الذي يقتل به هو من جنس السيف كان أتم في المعنى، فعمل بعض المتأدبين - ولا أعلم هل هو شرف الدين نفسه أم غيره - بيتين نبه فيهما على هذه الزيادة، وهما:

البيض أقتل مضـربـا

 

وبمهجتي منها الحسان

والسمر إن قتلت فمـن

 

بيض يصاغ لها السنان

 

ومن أشعاره التي يتغنى بها قوله:

يا ليلة حتى الصباح سهرتها

 

قابلت فيها بدرها بـأخـيه

سمح الزمان بها فكانت ليلة

 

عذب العتاب بها لمجتذبـيه

أحييتها وأمتها عن حـاسـد

 

ما همه إلا الحديث يشتهـيه

ومعانقي حلو الشمائل أهيف

 

جمعت ملاحة كل شيء فيه

يختال معتدلا فإن عبث الصبا

 

بقوامه معترضـا يثـنـيه

نشوان تهجم بي عليه صبابتي

 

ويردني ورعي فأستحـييه

علقت يدي بعذاره وبـخـده

 

هذا أقبـلـه وذا أجـنـيه

لو لم تخالط زفرتي أنفاسـه

 

كانت تنم بنا إلـى واشـيه

حسد الصباح الليل لما ضمنا

 

غيظا ففرق بيننـا داعـيه

 

وله

رعى الله ليلات تقضت بقربكم

 

قصارا وحياها الحيا وسقاهـا

فما قلت إيه بعدها لمسـامـر

 

من الناس إلا قال قلبي آهـا

 

وهذان بيتان يوجدان في أثناء قصيدة لصاحبنا الحسام الحاجري - المقدم ذكره في حرف الغين - لكن رأيت أكثر أصحابنا يقولون: إنهما لشرف الدين المذكور، والله أعلم.


وكان قد خرج من مسجد بجواره ليلا ليجيء إلى داره فوثب عليه شخص وضربه بسكين قاصدا فؤاده، فالتقى الضربة بعضده فجرحته جراحة متسعة فأحضر في الحال المزين وخاطها ومرخها وقمطها باللفائف، فكتب إلى الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل يطالعه بما تم عليه في هذه الأبيات، وغالب ظني أن ذلك كان في سنة ثماني عشرة وستمائة، وأذكر القضية وأنا يومئذ صغير، والأبيات:

يا أيها الملك الذي سطواتـه

 

من فعلها يتعجب المـريخ

آيات جودك محكم تنزيلهـا

 

لا ناسخ فيها ولا منسـوخ

أشكو إليك وما بليت بمثلهـا

 

شنعاء ذكر حديثها تـاريخ

هي ليلة فيها ولدت وشاهدي

 

فيما ادعيت القمط والتمريخ

 

وهذا معنى بديع جدا. وكان يقول: علمت في نومي بيتين وهما:

وبتنا جميعا وبات الغـيور

 

يعض يديه علينا حـنـق

نود غراما لو أنا نـبـاع

 

سواد الدجى بسواد الحدق

 

وكان قد وصل إلى إربل بعض الشعراء وهو الشرف عبد الرحمن بن أبي الحسن بن عيسى بن علي بن يعرب البوازيجي الشاعر في سنة ثمان وعشرين وستمائة وشرف الدين يومئذ وزير، فسير له مثلوما على يد شخص كان في خدمته يقال له الكمال بن الشعار الموصلي صاحب التاريخ - والمثلوم: عبارة عن دينار تقطع منه قطعة صغيرة وقد جرت عادتهم في العراق وتلك البلاد أن يفعلوا مثل هذا، لأنهم يتعاملون بالقطع الصغار، ويسمونها القراضة، ويتعاملون أيضا بالمثلوم، وهو كثير الوجود بأيديهم في معاملاتهم - فجاء الكمال إلى ذلك الشعر وقال له: الصاحب يقول لك: أنفق الساعة هذا حتى يجهز لك شيئا يصلح لك، فتوهم ذلك الشاعر أن يكون الكمال قد قرض القطعة من الدينار، وأن شرف الدين ما سيره إلا كاملا، وقصد استعلام الحال من جهة شرف الدين، فكتب إليه:

يا أيها المولى الوزير ومن به

 

في الجود حقا تضرب الأمثال

أرسلت بدر التم عند كمـالـه

 

حسنا فوافى العبد وهو هلال

ما غاله النقـصـان إلا أنـه

 

بلغ الكمال، كذلـك الآجـال

 

فأعجب شرف الدين بهذا المعنى وحسن الاتفاق، وأجاز الشاعر وأحسن إليه.


 وكنت خرجت من إربل في سنة ست وعشرين وستمائة وشرف الدين مستوفي الديوان، والاستيفاء في تلك البلاد منزلة عليه، وهو تلو الوزارة، ثم بعد ذلك تولى الوزارة في سنة تسع وعشرين وستمائة، وشكرت سيرته فيها، ولم يزل عليها إلى أن مات مظفر الدين في التاريخ المذكور في ترجمته في حرف الكاف رحمه الله تعالى، وأخذ الإمام المستنصر إربل في منتصف شوال من السنة المذكورة فبطل شرف الدين وقعد في بيته، والناس يلازمون خدمته على ما بلغني، ومكث كذلك إلى أن أخذ التتر مدينة إربل في سابع عشرين شوال سنة أربع وثلاثين وستمائة، وجرى عليها وعلى أهلها ما قد اشتهر، فكان شرف الدين في جملة من اعتصم بالقلعة وسلم منهم، ولما انتزح التتر عن القلعة انتقل إلى الموصل وأقام بها في حرمة وافرة، وله راتب يصل إليه، وكان عنده من الكتب النفيسة شيء كثير. ولم يزل على ذلك حتى توفي بالموصل يوم الأحد لخمس خلون من المحرم سنة سبع وثلاثين وستمائة، ودفن بالمقبرة السابلة خارج باب الجصاصة. ومولده في النسف من شوال سنة أربع وستين وخمسمائة بقلعة إربل. وهو من بيت كبير كان فيه جماعة من الرؤساء الأدباء. وتولى الاستيفاء بإربل والده وعمه صفي الدين أبو الحسن علي بن المبارك.


وكان عمه المذكور فاضلا وهو الذي نقل نصيحة الملوك تصنيف حجة الإسلام أبي حامد الغزالي من اللغة الفارسية إلى العربية، فإن الغزالي لم يضعها إلا بالفارسية، وقد ذكر ذلك شرف الدين في تاريخه، وكنت أسمع ذلك أيضا عنه أيام كنت في تلك البلاد، ووكان ذلك مشهورا بين الناس.


ولما مات شرف الدين رثاه صاحبنا الشمس أبو العز يوسف بن النفيس الإربلي المعروف بشيطان الشام، ومولد شيطان الشام سنة ست وثمانين وخمسمائة بإربل، وتوفي بالموصل سادس عشر شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وستمائة، ودفن بمقبرة باب الجصاصة، وفيه يقول:

أبا البركات لو درت المنـايا

 

بأنك فرد عصرك لم تصبكا

كفى الإسلام رزأ فقد شخص

 

عليه بأعين الثقلين يبـكـى

ولولا خوف الإطالة لذكرت كثيرا من وقائعه وأخباره وما جراياته وتفاصيل أحواله وما مدح به، ولقد كان، رحمه الله، من محاسن وقته، ولم يكن في آخر الوقت في ذلك البلد مثله في فضائله ورياسته.

وقد سبق الكلام على اللخمي فلا حاجة إلى إعادته.