الإمام الشافعي

الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب ابن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، القرشي المطلبي الشافعي، يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف المذكور، وباقي النسب إلى عدنان معروف، لقي جده شافع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع، وكان أبوه السائب صاحب راية بني هاشم يوم بدر، فأسر وفدى نفسه ثم أسلم، فقيل له: لم لم تسلم قبل أن تفدي نفسك؟ فقال: ما كنت أحرم المؤمنين مطمعا لهم في.

وكان الشافعي كثير المناقب جم المفاخر منقطع القرين، اجتمعت فيه من العلوم بكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة رضي الله عنهم وآثارهم، واختلاف أقاويل العلماء وغير ذلك من معرفة كلام العرب واللغة والعربية والشعر - حتى إن الأصمعي مع جلالة قدره في هذا الشأن قرأ عليه أشعار الهذليين - ما لم يجتمع في غيره، حتى قال أحمدبن حنبل رضي الله عنه: ما عرفت ناسخ الحديث ومنسوخه حتى جالست الشافعي، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: ما رأيت رجلا قط أكمل من الشافعي، وقال عبد الله بن أحمد ابن حنبل: قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي؟ فإني سمعتك تكثر من الدعاء له، فقال: يا بني، كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن، هل لهذين من خلف أو عنهما من عوض؟ وقال أحمد: ما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي وأستغفر له، وقال يحيى بن معين: كان أحمد بن حنبل ينهانا عن الشافعي، ثم استقبلته يوما والشافعي راكب بغلة وهو يمشي خلفه، فقلت: يا أبا عبد الله، تنهانا عنه وتمشي خلفه؟ فقال: اسكت، لو لزمت البغلة انتفعت.

وحكى الخطيب في تاريخ بغداد عن ابن عبد الحكم قال: لما حملت أم الشافعي به رأت كأن المشتري خرج من فرجها حتى انقض بمصر، ثم وقع في كل بلد منه شظية، فتأول أصحاب الرؤيا أنه يخرج منها عالم يخص علمه أهل مصر ثم يتفرق في سائر البلدان.

وقال الشافعي: قدمت على مالك بن أنس وقد حفظت الموطأ فقال لي: أحضر من يقرأ لك، فقلت: أنا قارئ، فقرأت عليه الموطأ حفظا، فقال: إن يك أحد يفلح فهذا الغلام. وكان سفيان بن عيينة إذا جاءه شيء من التفسير أو الفتيا التفت إلى الشافعي فقال: سلوا هذا الغلام. وقال الحميدي: سمعت زنجي بن خالد - يعني مسلما - يقول للشافعي: أفت يا أبا عبد الله فقد والله آن لك أن تفتي، وهو ابن خمس عشرة سنة، وقال محفوظ بن أبي توبة البغدادي: رأيت أحمد بن حنبل عند الشافعي في المسجد الحرام، فقلت: يا أبا عبد الله، هذا سفيان بن عيينة في ناحية المسجد يحدث، فقال: إن هذا يفوت وذاك لا يفوت. وقال أبو حسان الزيادي: ما رأيت محمد بن الحسن يعظم أحدا من أهل العلم تعظيمه للشافعي، ولقد جاءه يوما فلقيه وقد ركب محمد بن الحسن، فرجع محمد إلى منزله وخلا به يومه إلى الليل، ولم يأذن لأحد عليه.

والشافعي أول من تكلم في أصول الفقه وهو الذي استنبطه، وقال أبو ثور: من زعم انه رأى مثل محمد بن إدريس في علمه وفصاحته ومعرفته وثباته وتمكنه فقد كذب، كان منقطع القرين في حياته، فلما مضى لسبيله لم يعتض منه. وقال أحمد بن حنبل: ما أحد ممن بيده محبرة أو ورق إلا وللشافعي في رقبته منة. وكان الزعفراني يقول: كان أصحاب الحديث رقودا حتى جاء الشافعي فأيقظهم فتيقظوا. ومن دعائه: اللهم يا لطيف أسألك اللطف فيما جرت به المقادير، وهو مشهور بين العلماء بالإجابة، وأنه مجرب. وفضائله أكثر من أن تعدد.

وموله سنة خمسين ومائة، وقد قيل إنه ولد في اليوم الذي توفي فيه الإمام أبو حنيفة، وكانت ولادته بمدينة غزة، وقيل بعسقلان، وقيل باليمن، والأول أصح، وحمل من غزة إلى مكة وهو ابن سنتين فنشأ بها وقرأ القرآن الكريم، وحديث رحلته إلى مالك بن أنس مشهور فلا حاجة إلى التطويل فيه، وقدم بغداد سنة خمس وتسعين ومائة فأقام بها سنتين، ثم خرج إلى مكة، ثم عاد إلى بغداد سنة ثمان وتسعين ومائة فأقام بها شهرا، ثم خرج إلى مصر، وكان وصوله إليها في سنة تسع وتسعين ومائة، وقيل سنة إحدى ومائتين.

ولم يزل بها إلى أن توفي يوم الجمعة آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين، ودفن بعد العصر من يومه بالقرافة الصغرى، وقبره يزار بها بالقرب من المقطم، رضي الله عنه.

قال الربيع بن سليمان المرادي: رأيت هلال شعبان وأنا راجع من جنازته، وقال: رأيته في المنام بعد وفاته فقلت: يا أبا عبد الله، ما صنع الله بك؟ فقال: أجلسني على كرسي من ذهب، ونثر علي اللؤلؤ الرطب. وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب طبقات الفقهاء ما مثاله: وحكى الزعفراني عن أبي عثمان ابن الشافعي قال: مات أبي وهو ابن ثمان وخمسين سنة.

وقد اتفق العلماء قاطبة من أهل الحديث والفقه والأصول واللغة والنحو وغير ذلك على ثقته وأمانته وعدالته وزهده وورعه ونزاهة عرضه وعفة نفسه وحسن سيرته وعلو قدره وسخائه.

وللإمام الشافعي أشعار كثيرة فمن ذلك ما نقلته من خط الحافظ أبي طاهر السلفي رحمه الله تعالى:

إن الذي رزق اليسار ولم يصب

 

حمدا ولا أجرا لغير مـوفـق

الجد يدني كـل أمـر شـاسـع

 

والجد يفتح كل باب مـغـلـق

وإذا سمعت بأن مجدودا حـوى

 

عودا فأثمر في يديه فـصـدق

وإذا سمعت بأن محرومـا اتـى

 

ماء ليشربه فغاض فـحـقـق

لو كان بالحيل الغنى لوجدتـنـي

 

بنجوم أقطار السماء تعلـقـي

لكن من رزق الحجا حرم الغنى

 

ضدان مفترقـان أي تـفـرق

ومن الدليل على القضاء وكونـه

 

بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمد

 

ومن المنسوب إليه أيضا:

ماذا يخبر ضيف بيتك أهـلـه

 

إن سيل كيف معاده ومعاجـه

أيقول جاوزت الفرات ولم أنـل

 

ريا لديه وقد طغت أمـواجـه

ورقيت في درج العلا فتضايقت

 

عما أريد شعابه وفـجـاجـه

ولتخبرن خصاصتي بتملـقـي

 

والماء يخبر عن قذاه زجاجـه

عندي يواقيت الـقـريض ودره

 

وعلي إكليل الكـلام وتـاجـه

تربي على روض الربا أزهاره

 

ويرف في نادي الندى ديباجـه

والشاعر المنطيق أسود سالـخ

 

والشعر منه لعابه ومجـاجـه

وعداوة الشعراء داء معـضـل

 

ولقد يهون على الكريم علاجه

 

ومن المنسوب إليه أيضا:

رام نفعا فضر من غير قصد

 

ومن البر ما يكون عقوقـا

 

ومن المنسوب إلى الشافعي:

كلما أدبـنـي الـده

 

ر أراني نقص عقلي

وإذا ما ازددت علمـا

 

زادني علما بجهلـي

 

وهو القائل:

ولولا الشعر بالعلماء يزري

 

لكنت اليوم أشعر من لبيد

 

وقال الشافعي رضي الله عنه: تزوجت امرأة من قريش بمكة، وكنت أمازحها فأقول:

ومن البـلـية أن تـح

 

ب فلا يحبك من تحبه

 

فتقول هي:

ويصد عنك بوجهه

 

وتلج أنت فلا تغبه

 

وأخبرني أحد المشايخ الأفاضل أنه عمل في مناقب الشافعي ثلاثة عشر تصنيفا.
ولما مات رثاه خلق كثير، وهذه المرثية منسوبة إلى أبي بكر محمد بن دريد صاحب المقصورة، وقد ذكرها الخطيب في تاريخ بغداد وأولها:

بمقلتيه لـلـمـشـيب طـوالـع

 

زواجر عن ورد التصابي روادع

تصرفه طوع العنـان وربـمـا

 

دعاه الصبا فاقتاده وهـو طـائع

ومن لم يزعـه لـبـه وحـياؤه

 

فليس له من شيب فـوديه وازع

هل النافر المدعو للحـظ راجـع

 

أم النصح مقبول أم الوعظ نافـع

أم الهمك المغموم بالجمع عـالـم

 

بأن الذي يوعي من المال ضائع

وأن قصاراه على فرط ضـنـه

 

فراق الذي أضحى له وهو جامع

ويخمل ذكر المرء ذي المال بعده

 

ولكن جمع العلم للمـرء رافـع

ألم تر آثار ابـن إدريس بـعـده

 

دلائلها في المشكلات لـوامـع

معالم يفنى الدهر وهي خـوالـد

 

وتنخفض الأعلام وهي فـوارع

مناهج فيها للهدى مـتـصـرف

 

موارد فيها لـلـرشـاد شـرائع

ظواهرها حكم ومستبطنـاتـهـا

 

لما حكم التفريق فيه جـوامـع

لرأي ابن إدريس ابن عم محمـد

 

ضياء إذا ما أظلم الخطب ساطع

إذا المفظعات المشكلات تشابهت

 

سما منه نور في دجاهن لامـع

أبـى الـلـه إلا رفـعـه وعـلــوه

 

وليس لما يعليه ذو الـعـرش واضـع

توخى الهدى واستنقذتـه يد الـتـقـى

 

من الزيغ إن الزيغ للـمـرء صـارع

ولاذ بآثـار الـرسـول فـحـكـمـه

 

لحكم رسول الله في الـنـاس تـابـع

وعول فـي أحـكـامـه وقـضـائه

 

على ما قضى في الوحي والحق ناصع

بطيء عن الرأي المخوف التـبـاسـه

 

إليه إذا لم يخش لـبـسـا مـسـارع

وأنشا له منشـيه مـن خـير مـعـدن

 

خلائق هن الـبـاهـرات الـبـوارع

تسربل بـالـتـقـوى ولـيدا ونـاشـئا

 

وخص بلب الكهـل مـذ هـو يافـع

وهذب حتى لـم تـشـر بـفـضـيلة

 

إذا التـمـسـت إلا إلـيه الأصـابـع

فمن يك علم الـشـافـعـي إمـامـه

 

فمرتعه في سـاحة الـعـلـم واسـع

سلام على قبر تضـمـن جـسـمـه

 

وجادت عليه المدجنـات الـهـوامـع

لقد غيبـت أثـراؤه جـسـم مـاجـد

 

جليل إذا التفت علـيه الـمـجـامـع

لئن فجعتنا الحـادثـات بـشـخـصـه

 

لهن لما حـكـمـن فـيه فـواجـع

فأحـكـامـه فـينـا بـدور زواهـر

 

وآثـاره فـينـا نـجـوم طـوالــع

وقد يقول القائل: إن ابن دريد لم يدرك الشافعي، فكيف رثاه؟ لكنه يجوز أن يكون رثاه بعد ذلك، فما فيه بعد، فقد رأينا مثل هذا في حق غيره، مثل الحسين، رضي الله تعالى عنه، وغيره.