محمد بن الحنفية

أبو القاسم محمد بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، المعروف بابن الحنفية، أمه الحنفية خولة بنت جعفر بن قيس بن سلمة بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة ابن الدول بن حنيفة بن لجيم، ويقال بل كانت من سبي اليمامة، وصارت إلى علي رضي الله عنه، وقيل بل كانت سندية سوداء، وكانت أمة لبني حنيفة ولم تكن منهم، وإنما صالحهم خالد بن الوليد على الرقيق، ولم يصالحهم على أنفسهم.

وذكر البغوي في كتاب شرح السنة في باب قتال مانعي الزكاة أن طائفة ارتدوا عن الدين وأنكروا الشرائع وعادوا إلى ما كانوا عليه من الجاهلية، واتفقت الصحابة على قتالهم وقتلهم، ورأى أبو بكر رضي الله عنه سبي ذراريهم ونسائهم، وساعده على ذلك أكثر الصحابة، واستولد علي رضي الله عنه جارية من سبي بني حنيفة فولدت له محمد بن علي الذي يدعى محمد بن الحنفية، ثم لم ينقرض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبى.

وأما كنيته بأبي القاسم فيقال إنها رخصة من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإنه قال لعلي رضي الله عنه: سيولد لك بعدي غلام وقد نحلته اسمي وكنيتي ولا تحل لأحد من أمتي بعده. وممن يسمى محمدا ويكنى أبا القاسم: محمد بن أبي بكر الصديق، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن حاطب بن أبي بلتعة، ومحمد بن الأشعث بن قيس.

وكان محمد المذكور كثير العلم والورع، وقد ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء. وكان شديد القوة، وله في ذلك أخبار عجيبة، منها ما حكاه المبرد في كتاب الكامل أن أباه عليا، رضي الله عنه، استطال درعا كانت له، فقال: لينقص منها كذا وكذا حلقة، فقبض محمد إحدى يديه على ذيلها والأخرى على ضلها، ثم جذبها فقطع من الموضع الذي حدده أبوه. وكان عبد الله بن الزبير إذا حدث بهذا الحديث غضب واعتراه إفكل، وهو الرعدة، لأنه كان يحسده على قوته، وكان ابن الزبير أيضا شديد القوى.

ومن قوته أيضا ما حكاه المبرد في كتابه أن ملك الروم في أيام معاوية وجه إليه: إن الملوك قبلك كانت تراسل الملوك منا، ويجهد بعضهم أن يغرب على بعض، أفتأذن في ذلك؟ فأذن له، فوجه إليه برجلين أحدها طويل جسيم، والآخر أيد، فقال معاوية لعمرو بن العاص: أما الطويل فقد أصبنا كفؤه، وهو قيس بن سعد بن عبادة رصي الله عنه، وأما الآخر الأيد فقد احتجنا إلى رأيك فيه، فقال عمرو: ها هنا رجلان كلاهما إليك بغيض: محمد بن الحنفية وعبد الله بن الزبير، فقال معاوية: من هو أقرب إلينا على كل حال، فلما دخل الرجلان وجه إلى قيس بن سعد بن عبادة يعلمه، فدخل قيس، فلما مثل بين يدي معاوية نزع سراويله، فرمى بها إلى العلج فلبسها فبلغت ثندوته، فأطرق مغلوبا، فقيل إن قيسا لاموه في ذلك، وقيل له: لم تبذلت هذا التبذل بحضرة معاوية؟ هلا وجهت إليه غيرها؟ فقال:

أردت لكيما يعلم النـاس أنـهـا

 

سراويل قيس والوفود شـهـود

وأن لا يقولوا غاب قيس وهـذه

 

سراويل عادي نمتـه ثـمـود

وإني من القوم اليمـانـين سـيد

 

وما الناس إلا سـيد ومـسـود

وبذ جميع الخلق أصلي ومنصبي

 

وجسم به أعلو الرجـال مـديد

 

ثم وجه معاوية إلى محمد بن الحنفية فحضر، فخبر بما دعي له، فقال: قولوا له إن شاء فليجلس وليعطني يده حتى أقيمه أو يقعدني، وإن شاء فليكن القائم وأنا القاعد، فاختار الرومي الجلوس فأقامه محمد، وعجز الرومي عن إقعاده، ثم اختار أن يكون محمد هو القاعد، فجذبه محمد فأقعده، وعجز الرومي عن إقامته، فانصرفا مغلوبين.


وكانت راية أبيه يوم صفين بيده، ويحكى أنه توقف أول يوم في حملها لكونه قتال المسلمين، ولم يكن قبل ذلك شهد مثاله، فقال له علي رضي الله عنه: هل عندك شك في جيش مقدمه أبوك؟ فحملها. وقيل لمحمد: كيف كان أبوك يقحمك المهالك ويولجك المضايق دون أخويك الحسن والحسين؟ فقال: لأنهما كانا عينيه، وكنت يديه، فكان يقي عينيه بيديه.


ومن كلامه: ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدا حتى يجعل الله له فرجا.


ولما دعا ابن الزبير إلى نفسه وبايعه أهل الحجاز بالخلافة دعا عبد الله بن العباس ومحمد بن الحنفية رضي الله عنهما إلى البيعة، فأبيا ذلك وقالا: لا نبايعك حتى تجتمع لك البلاد، ويتفق الناس، فأساء جوارهم وحصرهم وآذاهم، وقال لهم: لئن لم تبايعا أحرقتكما بالنار، والشرح في ذلك يطول.


وكانت ولادته لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وتوفي رحمه الله في أول المحرم سنة إحدى وثمانين للهجرة، وقيل سنة ثلاث وثمانين، وقيل سنة اثنتين أو ثلاث وسبعين بالمدينة، وصلى عليه أبان بن عثمان بن عفان، وكان والي المدينة يومئذ، ودفن بالبقيع، وقيل إنه خرج إلى الطائف هاربا من ابن الزبير فمات هناك، وقيل إنه مات ببلاد أيلة.


والفرقة الكيسانية تعتقد إمامته وأنه مقيم بجبل رضوى، وإلى هذا أشار كثير عزة بقوله من جملة أبيات، وكان كيساني الاعتقاد:

وسبط لا يذوق الموت حتى

 

يقود الخيل يقدمها اللـواء

تغيب لا يرى فيهم زمانـا

 

برضوى عنده عسل وماء

وكان المختار بن أبي عبيد الثقفي يدعو الناس إلى إمامة محمد بن الحنفية، ويزعم أنه المهدي، وقال الجوهري في كتاب الصحاح: كيسان لقب المختار المذكور، وقال غيره: كيسان مولى علي رضي الله عنه. والكيسانية يزعمون أنه مقيم برضوى في شعب منه ولم يمت، دخل إليه ومعه أربعون من أصحابه، ولم يوقف لهم على خبر وهم أحياء يرزقون، ويقولون إنه مقيم في هذا الجبل بين أسد ونمر، وعنده عينان نضاختان تجريان عسلا وماء، وإنه يرجعه إلى الدنيا فيملؤها عدلا.

وكان محمد يخضب بالحناء والكتم وكان يختم في اليسار، وله أخبار مشهورة، رضي الله عنه، وانتقلت إمامته إلى ولده أبي هاشم عبد الله ومنه إلى محمد بن علي والد السفاح والمنصور، كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى. ورضوى: بفتح الراء وبعدها ضاد معجمة وبعد الواو ألف، قال ابن جرير الطبري في تاريخه الكبير في سنة أربع وأربعين ومائة: رضوى جبل جهينة، وهو في عمل ينبع، وقال غيره: بينهما مسيرة يوم واحد، وهو من المدينة على سبع مراحل ميامنة طريق المدينة ومياسرة طريق البر لمن كان مصعدا إلى مكة وهو على ليلتين من البحر، والله أعلم. ومن رضوى تحمل حجارة المسن إلى سائر الأمصار، قاله ابن حوقل في كتابه المسالك والممالك.

وذكر أبو اليقظان في كتاب النسب أن ابن الحنفية له ابن اسمه الهيثم وكان مؤخذا عن مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يقدر أن يدخله، والأخيذ في اللغة: الأسير، والأخذه - بضم الهمرة - رقية كالسحر، فكانه كان مسحورا.