محمد بن أبي ليلى

محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار - ويقال داود بن بلال بن أحيحة ابن الجلاح الانصاري الكوفي - وقد سبق ذكر أبيه في حرف العين، كان محمد المذكور من أصحاب الرأي، وتولى القضاء بالكوفة وأقام حاكما ثلاثا وثلاثين سنة، ولي لبني أمية ثم لبني العباس وكان فقيها مفننا، وقال: لا أعقل من شأن أبي شيئا غير أني أعرف أنه كانت له امرأتان، وكان له حبان أخضران، فينبذ عند هذه يوما وعند هذه يوما. وتفقه محمد بالشعبي، وأخذ عنه سفيان الثوري، وقال الثوري: فقهاؤنا ابن أبي ليلى وابن شبرمة. وقال محمد المذكور: دخلت على عطاء فجعل يسألني، فأنكر بعض من عنده وكلمه في ذلك فقال: هو أعلم مني.

وكانت بينه وبين أبي حنيفة رضي الله عنه وحشة يسيرة، وكان يجلس للحكم في مسجد الكوفة، فيحكى انه انصرف يوما من مجلسه، فسمع امرأة تقول لرجل: يا ابن الزانيين، فأمر بها فأخذت ورجع إلى مجلسه، وأمر بها فضربت حدين وهي قائمة. فبلغ ذلك أبا حنيفة فقال: أخطأ القاضي في هذه الواقعة في ستة أشياء: في رجوعه إلى مجلسه بعد قيامه منه، ولا ينبغي له أن يرجع بعد أن قام منه، وفي ضربه الحد في المسجد، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إقامة الحدود في المساجد، وفي ضربه المرأة قائمة، وإنما تضرب النساء قاعدات كاسيات، وفي ضربه إياها حدين، وإنما يجب على القاذف إذا قذف جماعة بكلمة واحدة حد واحد، ولو وجب أيضا حدان لا يوالي بينهما، بل يضرب أولا ثم يترك حتى يبرأ من ألم الأمل، وفي إقامة الحد عليها بغير طالب. فبلغ ذلك محمد بن أبي ليلى، فسير إلى والي الكوفة وقال: ها هنا شاب يقال له أبو حنيفة يعارضني في أحكامي ويفتي بخلاف حكمي ويشنع علي بالخطأ، فأريد أن تزجره عن ذلك، فبعث إليه الوالي ومنعه عن الفتيا، فيقال إنه كان يوما في بيته وعنده زوجته وابنه حماد وابنته، فقالت له ابنته: إني صائمة وقد خرج من بين أسناني دم وبصقته حتى عاد الريق أبيض لا يظهر عليه أثر الدم، فهل أفطر إذا بلعت الآن الريق؟ فقال لها: سلي أخاك حمادا فإن الأمير منعني من الفتيا. وهذه الحكاية معدودة في مناقب أبي حنيفة وحسن تمسكه بامتثال إشارة رب الأمر، فإن إجابته طاعة، حتى إنه أطاعه في السر، ولم يرد على ابنته جوابا، وهذا غاية ما يكون من امتثال الأمر.

وكانت ولادة محمد المذكور سنة أربع وسبعين للهجرة، وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائة بالكوفة، وهو باق على القضاء، فجعل أبو جعفر المنصور ابن أخيه مكانه، رضي الله عنه.