محيي الدين ابن الشهرزوري

القاضي محيي الدين ابن الشهرزوري

أبو حامد محمد بن القاضي كمال الدين بن الشهرزوري المذكور قبله، الملقب محيي الدين، وقد تقدم من ذكر رياسة أبيه وما كان عليه من علو المرتبة ما لا حاجة إلى إعادته. وكان القاضي محيي الدين قد دخل بغداد للاشتغال فتفقه على الشيخ أبي منصور بن الرزاز وتميز، ثم أصعد إلى الشام، وولي قضاء دمشق نيابة عن والده، ثم انتقل إلى حلب وحكم بها نيابة عن أبيه أيضا في شهر رمضان سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وبه عزل ابن أبي جرادة المعروف بابن العديم، وقيل كان ذلك في شعبان سنة ست وخمسين، والله أعلم. وبعد وفاة والده تمكن عند الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين صاحب حلب غاية التمكن، وفوض إليه تدبير مملكة حلب في شعبان سنة ثلاث وسبعين، واستمر على ذلك، ثم وشى به أعداؤه وحساده إلى الصالح وجرت أسباب اقتضت أنه لزم بيته، ورأى المصلحة في مفارقة حلب والرجوع إلى بلد الموصل فانتقل إليها، وتولى قضاءها ودرس بمدرسة والده وبالمدرسة النظامية بالموصل، وتمكن عند صاحب الموصل عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن زنكي - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - واستولى على جميع الأمور، وتوجه من جهته رسولا إلى بغداد مرارا. وذكر بهاء الدين يوسف المعروف بابن شداد قاضي حلب في كتاب ملجأ الحكام عند التباس الأحكام انه كان في خدمة القاضي محيي الدين عند توجهه إلى بغداد في إحدى الرسائل، وناهيك بمن يكون في خدمته مثل هذا الرجل - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

وكان محيي الدين المذكور جوادا سريا، قيل إنه انعم في بعض رسائله إلى بغداد بعشرة آلاف دينار أميرية على الفقهاء والأدباء والشعراء والمحاويج، ويقال إنه في مدة حكمه بالموصل لم يعتقل غريما على دينارين فما دونهما، بل كان يوفيهما عنه ويخلي سبيله ويحكى عنه مكارم كثيرة ورياسة ضخمة، وكان من النجباء عريقا في النجابة تام الرياسة، كريم الأخلاق رقيق الحاشية، له في الأدب مشاركة حسنة وله أشعار جيدة، فمن ذلك ما أنشدني له بعض الأصحاب في وصف جرادة، وهو تشبيه غريب:

لها فخذ بكر وسـاقـا نـعـامة

 

وقادمتا نسر وجؤجؤ ضـيغـم

حبتها أفاعي الرمل بطنا وأنعمت

 

عليها جياد الخيل بالرأس والفم

 

ورأيت له في بعض المجاميع هذين البيتين، وهما في وصف نزول الثلج من الغيم:

ولما شاب رأس الدهر غيظا

 

لما قاساه من فقد الكـرام

أقام يميط هذا الشيب عنـه

 

وينثر ما أماط على الأنـام

 

وكانت ولادته سنة عشر وخمسمائة تقريبا، وقال العماد الكاتب في الخريدة: مولده سنة تسع عشرة، والله أعلم، وزاد في كتاب السيل في شعبان. وتوفي سحرة يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمسمائة، وقيل ثالث عشريه، هكذا ذكره العماد في السيل والأول ذكره ابن الدبيثي، وذلك بالموصل، ودفن بداره بمحلة القلعة، ثم نقل إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، رحمه الله تعالى. هكذا رأيته في بعض التواريخ، وذكر ابن الدبيثي في تاريخه انه نقل إلى تربة عملت له ظاهر البلد، والله أعلم، ثم حققت ذلك فوجدته كما قال ابن الدبيثي، وتربته خارج باب الميدان بالقرب من تربة قضيب البان صاحب الكرامات، رحمه الله تعالى.


وكان لكمال الدين ابن آخر يقال له عماد الدين أحمد توجه رسولا إلى بغداد عن نور الدين في سنة تسع وستين وخمسمائة، ومدحه ابن التعاويذي بقصيدة يقول من جملتها:

وقالوا: رسول أعجزتنا صفاتـه

 

فقلت: صدقتم هذه صفة الرسل